ديفيد فون دريل
TT

ثورة الطاقة انطلقت بالفعل

بين معسكر الإنكار الذي يؤكد أن كل الحديث الدائر عن التغييرات المناخية محض اختلاق، والمعسكر المذعور الآخر الذي دائماً ما يرسم صورة آخر فلول البشر يفرون إلى المريخ، ثمة جبهة مثيرة للاهتمام تضم أفراداً منهمكين للغاية بمحاولة إحراز تقدم في مواجهة التغييرات المناخية لدرجة تشغلهم عن التورط في مباريات الصياح السياسية.
وربما للمرة الأولى في التاريخ، ينجح مجتمع بشري (مجتمعنا!) في تحطيم الصلة القائمة بين النمو الاقتصادي المستدام والاستهلاك الأكبر للطاقة. لقد محت الولايات المتحدة - التي تعتبر أكبر مستهلك للطاقة على وجه الأرض بفارق ضخم عمن يليها - قانوناً راسخاً دار حول فكرة «احرق أكثر لتنتج أكثر»، وأرست بدلاً عنه رقماً شبه قياسي من النمو الاقتصادي للعام التاسع على التوالي مع الإبقاء في الوقت ذاته على إجمالي استهلاك الطاقة ثابتاً.
وعند إلقاء النظر على فترة أبعد، نجد أنه عام 1990، تبعاً للوكالة الإعلامية لمعلومات الطاقة، فإن ما يكافئ 9000 وحدة حرارية بريطانية من الطاقة استهلكت مقابل كل دولار من النمو داخل الاقتصاد الأميركي. العام الماضي، استهلك كل دولار حقيقي من النمو أقل عن 6000 وحدة حرارية بريطانية. وتتوقع الوكالة تراجع الرقم إلى قرابة 3000 وحدة حرارية بريطانية لكل دولار نمو بحلول عام 2050. وتشير الأرقام إلى أن حجم انبعاثات ثاني أكسيد الكربون (أبرز عناصر الغازات المسببة لظاهرة الاحتباس الحراري) بالنسبة للدولار في انحسار مستمر منذ عام 2008.
إذن، ماذا يخبرنا ذلك؟ أن التغيير ليس ممكناً فحسب، بل واقع قائم بالفعل. في الواقع فإن الأجهزة الكهربائية الموفرة للطاقة ومصابيح «ليد» والمركبات المصنوعة من الألومونيوم ليست مجرد جهود رمزية، وإنما جزء من ثورة قائمة من أجل ترشيد استهلاك الطاقة داخل المنزل ومكان العمل وعلى الطريق - وهي ثورة تؤتي ثماراً حقيقية دون الإخلال بأسلوب حياتنا.
ولك أن تتخيل أنه في القرن الـ20، نجحت طاقة الماء، التي تشكل مصدر نحو 7.5 في المائة من الكهرباء داخل الولايات المتحدة، في تحديث منطقة تينيسي فالي وتحويل الليل إلى نهار على امتداد منطقة شمال غربي المحيط الهادي، وإضفاء إضاءة متلألئة على صحراء نيفادا. واليوم، تشير الأرقام إلى أنه في غضون جيل واحد ستتفوق طواحين الهواء على السدود من حيث حجم الطاقة المنتجة.
أيضاً، تشكل الطاقة الشمسية توجهاً جديداً آخذاً في التزايد مع تحسن مستوى جودة الألواح الشمسية وتراجع الأسعار. وربما سيعتمد المليار شخص التالون الذين يفرون من براثن الفقر بمختلف أرجاء العالم على الخلايا الشمسية في خضم جهودهم لصعود السلم الاقتصادي، بدلاً عن النفط أو الفحم. وإذا استمر التقدم على صعيد تكنولوجيا بطاريات التخزين، الأمر الذي يبدو في حكم المؤكد، فإن الطاقة الشمسية ستلعب دوراً أكبر بالتأكيد في إمداد المنازل والصناعات على مستوى العالم بالطاقة - مثلما الحال بالفعل داخل الصين التي توفر دعماً كبيراً للطاقة الشمسية.
إلا أنه في الوقت الذي تشير الأسهم نحو الاتجاه الصائب فيما يخص استهلاك الطاقة ومزيج الطاقة، فإننا لا نزال نتحرك حتماً باتجاه إطلاق مليارات الأطنان من غاز ثاني أكسيد الكربون على امتداد العقود، إذا لم يكن الأجيال، القادمة.
وداخل «معامل سانديا الوطنية» في نيو مكسيكو، نجح فريق بقيادة المخترع البارز جيف برينكر في ابتكار تكنولوجيا على درجة كبيرة من الكفاءة والاستمرارية علاوة على كونها منخفضة التكلفة للتخلص من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون من داخل المفاعلات المولدة للطاقة. تبعاً للابتكار الجديد، يتولى غشاء رفيع عزل جزيئات ثاني أكسيد الكربون وتمتصها بسرعة.
من ناحية أخرى، ربما توصل علماء في النرويج إلى سبيل جيد لتخزين ثاني أكسيد الكربون الذي جرى امتصاصه، ذلك أنه خلال مؤتمر استضافته فيينا الصيف الماضي، كشف فريق من جامعة بيرغين النقاب عن إحرازهم تقدماً واعداً في مجال امتصاص وتخزين الغازات. بدلاً عن «تصديع» التشكيلات الصخرية تحت الأرض لتحرير الوقود المحتجز، نجح العلماء في حقن ثاني أكسيد الكربون بنجاح في عينات جوفية على نحو أطلق العنان للنفط المحتجز، وترك ثاني أكسيد الكربون محتجزاً في مكانه. وذكر القائمون على العملية الجديدة أنها «زادت كميات النفط المستخرجة على نحو هائل مقارنة بعملية التصديع، في الوقت الذي قلصت الانبعاثات الكربونية».
جدير بالذكر أن عملية التصديع كان لها الفضل في إدخال تغييرات هائلة على الاقتصاد الأميركي، ووفرت وقودا أرخص وأنظف، بجانب إمكانية تحقيق الاستقلال بمجال الطاقة. أما هذه العملية الجديدة، فتحمل إمكانات أكبر إذا ما صمدت التجربة النرويجية في اختبارات ميدانية.
من جهته، باستطاعة الكونغرس تعزيز هذا التقدم من خلال إقرار ضرائب على انبعاثات ثاني أكسيد الكربون وتخصيص عوائدها لمزيد من جهود البحث وتوفير حوافز للاستثمار. ومع هذا، سيظل من الكافي الاكتفاء بالاستمرار في السياسات الراهنة، لأنه من الواضح أنها ناجعة بالفعل.
*خدمة «واشنطن بوست»