الأقفال أصابها الصدأ، لم تعد مغاليقُ الخرائط صالحةً لعصر تحكمه القوة الرقمية، والمعرفة، والمعادن النادرة، بزمان لم تعد فيه أصوات الطائرات والمدافع هي الحل.
ساكن البيت الأبيض مهموم بأخذ أميركا في المقدمة، لكن بهدوء ينظر من شرفة العالم بقواعد جديدة، لا يغرق في التفاصيل، لكنَّه ماهر في السباحة بالعناوين العريضة، ويحترف القفز بثقة إلى شواطئ السلام والاستقرار.
إنه يلعب كل الأدوار بإتقان، يتحرك في أكثر من مسار والهدف واحد. في عقله الأميركي تتقدم المفاهيم الثابتة انطلاقاً من «أميركا أولاً». صاغ استراتيجية الأمن القومي، فأعاد ترسيم المصالح الاستراتيجية الكبرى لعالم جديد يحافظ على الوزن النسبي للولايات المتحدة.
وسط ضباب الخرائط وسباق المصالح، فتح أبواب العالم بنسخة مفتاح جديدة، وألقى بالنسخة القديمة وراء ظهره. رفع شعار مصالح بلاده أولاً، وراح يعمل عليها من خلال الهجوم المباغت على الحلفاء القدامى، وأحاط الخصوم برؤية أميركية جديدة، لم تعتدها القوى المنافسة، محورها التجارة وفرض الجمارك، وجعل شركاءه في حلف «الناتو» يدفعون نسبة عالية في ميزانية الحلف تصل إلى 5 في المائة، لكن الأصعب على الحلفاء هو ما ورد في رؤيته الجديدة التي تتخلى كلية عن ثمانين عاماً من الشراكة العميقة.
يقول أحدهم إن ترمب ألقى بمفتاح مؤتمر يالطا عام 1945 في البحر، وأعد نسخة جديدة بمفتاح يالطا أخرى تقوم على أنه الوحيد في قيادة العالم الذي يستطيع أن يجعل من أميركا «دولة عظمى» دون شراكات عالمية، مثل التي جرت في اتفاق يالطا الأول، الذي جمع ما بين فرنكلين روزفلت وجوزيف ستالين، وونستون تشرشل، في شبه جزيرة القرم، وتم تقسيم العالم بين المنتصرين، وكان من شأن ألمانيا أن تم تفتيتها ما بين أميركا وروسيا وبريطانيا وفرنسا، حتى لا تظهر نازية جديدة، لكن الأهم في ذلك الاتفاق هو الإقرار بإنشاء منظمة الأمم المتحدة حتى لا تقع كارثة عالمية جديدة.
ذلك قبل أن يتحوَّل هذا الاتفاق إلى حرب باردة جديدة بين المعسكرين اللذين تحالفا ضد النازي، وانتهت تلك الحرب الباردة بتفكيك وهزيمة الفكر السوفياتي، وبقيت أميركا وحلفاؤها في أوروبا يقودون العالم، حتى جاء ترمب ليتخذ مساراً مغايراً.
لكن هذا المسار في الحقيقة هو بذرة كامنة في قلب وعقل السياسة الأميركية القديمة، الرئيس الخامس جيمس مونرو، الذي أصدر مبدأ «مونرو» عام 1823، ونصّ على أن أميركا بشقيها - الشمالي والجنوبي - للأميركيين، ومنع أوروبا من التدخل في شؤون أميركا بالكامل، وهو المبدأ الذي ظل حبيس الأدراج حتى جاء ترمب وأضاف إليه رؤية تسمح له بالتدخل، تقوم على مكافحة الهجرة غير الشرعية، ومكافحة المخدرات، وحماية أميركا، منطلقاً من فلسفة هذا المبدأ الذي وجد ضالته في جمهور أميركي متعطش لشعار «أميركا أولاً».
إن النسخة الجديدة من مفتاح ترمب تجاه الحلفاء والخصوم جعلت من أوروبا قارة متوترة وقلقة، يغيب عنها اليقين إلى الدرجة التي قال معها المستشار الألماني فريدريش ميرتس، إن أميركا خرجت من أوروبا الآن، وعلينا الاعتماد على أنفسنا، وهذا التصريح يمثل اعترافاً صريحاً من أهم دولة أوروبية خضعت للنفوذ الأميركي طيلة ثمانين عاماً. ترمب يكتب نصاً جديداً لنظام عالمي مختلف.
يتكشف هذا النمط الأميركي الجديد في تناوله لمسألة الحرب في قطاع غزة، فقد وضع عشرين نقطة لإيقاف الحرب، وصولاً للسلام، ونفذ منها المرحلة الأولى، ويضغط الآن لتنفيذ المرحلة الثانية، ويقول عن هذا إنه صنع السلام للمرة الأولى منذ ثلاثة آلاف عام، والحقيقة لا ندري ما المغزى من كل آلاف هذه السنين؟
لكن على أي حال وقفت الحرب بالفعل، ودعنا نر ما في جعبة ترمب أو مبعوثيه الذين يتجوّلون في الشرق الأوسط بين الحدود الحساسة، بجنوب لبنان، وجنوب سوريا، وكذلك في غزة والضفة الغربية.
نسخة ترمب هنا ليست نسخة نيكسون - كيسنجر، ولا نسخة جيمي كارتر - سايروس فانس، ولا نسخة جورج بوش الأب - جيمس بيكر، ولا نسخة كلينتون - مادلين أولبرايت، إنما هذه النسخة الترمبية التي لا مثيل لها، فهو يفكر خارج الصندوق الذي صاغته نتائج الحرب العالمية الثانية، فكسر بذلك أساس نظام يالطا، وتجلَّى ذلك في الملف الأوكراني، فقد وقف في الاتجاه المعاكس للرؤية الأوروبية عند معالجة المسألة الروسية - الأوكرانية، وكانت هذه السياسة مفاجأة لأوروبا التي تحالفت مع إدارة جو بايدن السابقة في مواجهة روسيا، واتخاذ الأدوات السياسية نفسها بين واشنطن وبروكسل، والتي لم تتوقع أن تكون الشعارات التي رفعها ترمب أثناء حملته الانتخابية، ستصبح حقيقة واقعية.
ترمب أراد تغيير نسخ المفاتيح القديمة لعالم متهالك، وصنع نسخته الجديدة التي يفتح بها أبواب العالم، لكن السؤال الضاغط الذي يفرض نفسه الآن: هل نحن في المنطقة العربية مستعدون لطوفان العالم الجديد؟
