د. آمال موسى
أستاذة جامعية مختصة في علم الاجتماع، وشاعرة في رصيدها سبع مجموعات شعرية، ومتحصلة على جوائز مرموقة عدة. كما أن لها إصدارات في البحث الاجتماعي حول سوسيولوجيا الدين والتدين وظاهرة الإسلام السياسي. وهي حالياً تشغل منصب وزيرة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن في الحكومة التونسية.
TT

صراع حضارات أم صراع ألسن؟

المعطيات أهم شيء: أهم من الرأي والموقف والقرار وكل شيء. لأن كل ما ذكرت ليست له قيمة إذا بني دون معطيات، وله كل القيمة إذا قام على معطيات حقيقية. وهي – أي المعطيات - في منتهى الخطورة إذا تلاعب أصحاب القرار والرأي والمواقف وقاموا بتحريفها خدمة لمصالح غير معلنة.
ذهب في ظننا خطأ أنّنا نعيش اليوم في عالم رفع يده عن المعلومات والمعطيات، وأنّها باتت في حوزة البشرية جميعها تتعاطى معها بكل حرية وتصلها بكل شفافية.
قد يكون هذا صحيحاً إلى حدّ ما بالنسبة إلى معطيات معينة. لكن لا يخص المعطيات التي تُحدد القوة والفاعلية بالنسبة إلى الدول التي تتصدر العالم اليوم. كما أن المعلومات المهمة فعلاً والتي تُصدرها كبرى المراكز في العالم لا نتابعها نحن في العالم العربي مع الأسف. لا نعطي المعطيات قدر قيمتها ولا نبحث عنها. لذلك؛ نقبل بما يقال لنا ونصدّق ما يتم تسويقه حول مؤشرات زوالنا الحضاري.
شاركت منذ أيام قليلة في ندوة مهمة حول اللغة، وكان على رأس المشاركين الأستاذ الدكتور التونسي محمد صلاح الدين الشريف، وهو من كبار اللسانيين العرب. ولقد قدم الشريف أفكاراً مشفوعة بمعطيات كمية غيرت الفكرة السائدة التي تنعى اللغة العربية، وترى فيها لغة انتهى تأثيرها وبصدد أن تلفظ أنفاسها الأخيرة. المداخلة تناولت الألسن ببعدها الأنثروبولوجي؛ لذلك وصفها الباحث بأنّها – أي الألسن - أكبر من الحضارات. بمعنى آخر، فإن اللغة يعتبرها أكبر من الحضارة. كما أن اللغة حتى تضمن ديمومتها فهي تحتاج إلى 850 سنة من الممارسة؛ وهو ما يعني أن الدول التي عرفت الاستعمار يجب ألا تخشى على لغتها من لغة المستعمر؛ لأنه لا يوجد استعمار دام 850 عاماً.
فاليوم حسب منظمة «سيل»، يوجد 7000 لسان؛ 95 في المائة منها محدودة الاستعمال، وحسب منظمة اليونيسكو فإنه كل سنة يموت 27 لساناً. المعطى الجدير بالانتباه، أن 1 في المائة فقط من مجموع 7000 لسان توصف بالألسن الفاعلة، أي 70 لساناً فقط.
ما يهمنا نحن أبناء اللغة العربية أن الألسن الأكثر هيمنة في العالم اليوم هي 0.1 في المائة، ومنها اللغة العربية. بل إن رتبة اللغة العربية حسب منظمة «سيل» لسنة 2018 هي الرابعة، وهي ذات قوة تأثيرية ويمكنها أن تعيش طبيعياً 1000 سنة قادمة. ويقول تقرير منظمة «سيل»، إنه في سنة 2060 ستكون العربية أقوى من اللغة الإسبانية التي تتصدر اليوم الخريطة اللسانية بعد اللغة الإنجليزية.
إذن، ما نفهمه من هذه المعطيات أنه هناك صراع ألسن مسكوت عنه وينطوي على معطيات غير متداولة إعلامياً، حيث منذ سنوات طويلة تم الانشغال بصراع الحضارات دون أي انتباه حقيقي لصراع الألسن الخفي. ولا نعتقد أن هذا الصمت عن حقيقة الواقع اللساني العالمي وأهمية موقع اللغة العربية من باب الصدفة أو هو نتاج حسن نية. فالمعركة وجودية بالأساس عندما يتصل الأمر باللغة، وما أدراك ما اللغة.
كما أنّه ها نحن نقف مجدداً عند نفس الاستنتاج والحقيقة: فمن يسيطر على المعطيات يسيطر على اللغة ويوجه معانيها في الاتجاه الذي يخدم مصلحة لغته وثقافته وحضارته.
المشكلة أن مجتمعاتنا لم تستوعب الدّرس جيداً: إهمال مقصود ومتواصل لأهمية اللغة والثقافة، والحال أن كل المعارك الظاهرة والمعلنة وأيضاً المسكوت عنها هي ذات صلة باللغة والثّقافة. فالفعل الحقيقي يكون عن طريق اللغة والثقافة، وهو ما يعني أن الرمزي بقدر ما يحتاج إلى قرون كي يتجذر ويتغلغل في الممارسات الرمزية؛ فإنه في المقابل لا يندثر بسهولة، وشديد البأس والمقاومة، وتلك هي عظمة الرمزي ودهشته.
أظن أننا أمام معطيات إيجابية جداً حاملة للأمل. فاللغة العربية هي الرابعة عالمياً، ومن المتوقع أن تكون الثانية بعد أربعة عقود، وهي لغة تتمتع بقوة تأثيرية. أي أننا مجتمعات مالكة للغة قوية ومؤثرة ولها موقع متقدم جداً في الخريطة اللسانية الإنسانية، وهذا في حد ذاته مصدر ثراء وقوة، لكن لا علم لنا بذلك.
وكي تحظى هذه المعطيات النفيسة التي بحث عنها الدكتور محمد صلاح الدين الشريف وأسعد قلوبنا بسماعها بالأثر التحفيزي لمجتمعاتنا، من المهم أن يتم ترويجها إعلامياً والعمل على تعميمها لأسباب عدّة؛ أوّلها تصحيح الأفكار المروجة الخاطئة عن أزمة اللغة العربية وخطر زوالها، وثانياً تعزيز أحد مقومات الهوية في المجتمعات العربية الإسلامية المتمثل في مقوم اللغة. أما السبب الآخر، فيتمثل في معرفة المتكتمين عن حقيقة المعطيات الخاصة بواقع الألسن في العالم أن المجتمعات العربية على دراية بالقوة التأثيرية للغة العربية وبأهمية مستقبلها وبأنها لغة تنبض بقوة.
من يتعمق في عالم اللسانيات يدرك لماذا المعارك في هذا الجانب خفية وبطيئة، ويدرك أن محاربة الأديان والحضارات أسهل من محاربة الألسن واللغات.
إننا في لحظة مركبة تعرف صراعات عدّة، بعضها معلوم وبعضها الآخر مجهول قصداً. والواضح، حسب أرقام منظمات دولية، أن اللغة العربية تدافع عن نفسها ببطولة وشجاعة في الصراع الصامت بين الألسن.