جيمس كيرتشيك
كاتب من خدمة «واشنطن بوست»
TT

عندما رفض ترمب الرئيس العمل بنصيحة ترمب المرشح

تشكل التوقعات المخيفة حول تداعيات التدخل في بلد أجنبي الصورة الأكثر شيوعاً وتعبيراً عن الكسل لحجج عدم التدخل العسكري، ناهيك عن أنها تحمل أصداء الدعايات السوفياتية التي عادة ما يجري الترويج لها بهدف تقويض مساعي الغرب للدفاع عن الديمقراطية والأعراف الدولية المهمة. لو أن ترمب استمع إلى نصيحته عندما كان مرشحاً، كان سيتخلى عن فرصة فرض حظر عالمي ضد استخدام الأسلحة الكيماوية.
وكان ترمب قال أثناء الحملة الانتخابية عن مقترح هيلاري كلينتون إنشاء منطقة حظر جوي فوق سوريا لحماية المدنيين، إنه ينطوي على مخاطرة التورط في مواجهة مع روسيا النووية، التي أرسلت جنوداً وعتاداً لدعم نظام بشار الأسد الدموي. وأكد ترمب: «أنتم لم تعودوا في حرب مع سوريا، وإنما تحاربون سوريا وروسيا وإيران. وروسيا دولة تملك أسلحة نووية فاعلة وليس مجرد دولة تتحدث عن السلاح النووي».
ومع هذا، فإنه في أعقاب شن نظام الأسد هجوماً باستخدام أسلحة كيماوية ضد مدنيين عزل، أصدر ترمب أوامره بتوجيه ضربات جوية لثلاثة أهداف تتبع الحكومة السورية بالتعاون مع بريطانيا وفرنسا. واللافت، أن حرباً عالمية لم تندلع!
وقبل إطلاق الصواريخ، حذر البنتاغون موسكو عبر قنوات «خفض التصعيد» أن ثمة ضربات وشيكة. وعليه، لم تتعرض أي من الأصول الروسية داخل سوريا لضرر. ومن جهتها، اعترضت روسيا بقوة على الإجراء العسكري الذي اتُخذ ضد سوريا التي تملك روسيا داخلها قاعدتين جوية وبحرية، لكن الثأر الروسي ظل بأكمله شفهياً فحسب، وتضمن الحديث الدبلوماسي المعتاد داخل الأمم المتحدة، وذلك في أعقاب صدور بيان عن السفير أنتونوف حول الضربات ضد سوريا قال فيه:
ان هناك سيناريو معداً سلفاً يجري تنفيذه، ونواجه من جديد تهديدات، رغم أننا سبق أن حذرنا من أن مثل تلك الأفعال لن تمر من دون عواقب. وتقع كامل المسؤولية عن هذه الأفعال على كاهل واشنطن ولندن وباريس.
في واقع الأمر، جاء هذا البيان متوقعاً تماماً، بل وشفافاً. والواضح أن روسيا - التي تضطلع بدور ليس بقليل في إطالة أمد الصراع الدائر داخل سوريا - ليس لديها أدنى رغبة في إشعال حرب حقيقية أمام القوة العسكرية الكبرى عالمياً حول ضربة جوية محدودة ترمي لمعاقبة النظام السوري عن تورطه في جرائم حرب محدودة، وليس لإسقاط نظام بشار الأسد. ومع هذا، فإنه خلال الأيام السابقة مباشرة للضربة العسكرية، لجأ النقاد إلى خطاب كارثي حول الصراع السوري، في الوقت الذي حث التلفزيون الرسمي الروسي المواطنين على تخزين المياه وإمدادات الطوارئ. وفي بريطانيا، حملت صحيفة «التليغراف» عنواناً كبيراً يتساءل: «هل يمكن جر بريطانيا إلى حرب عالمية ثالثة؟»، أما صحيفة «دير شبيغيل» واسعة الانتشار داخل ألمانيا فطرحت العنوان التالي: «على روسيا الاستعداد: دونالد ترمب يخاطر بإشعال حرب عالمية في سوريا».
وبذلك، يتضح أن الادعاء بأن النشاط العسكري الأميركي المتزايد في سوريا - سواء في صورة فرض منطقة حظر جوي لحماية مدنيين أو توجيه ضربات جوية دقيقة على غرار ما شهده الأسبوع الماضي - سيشعل حرباً عالمية يروج له رافضو التدخل العسكري عبر مختلف الأطياف السياسية. الملاحظ أن التخويف باستخدام هذا الادعاء يعود إلى بداية الحرب الباردة، عندما كانت هذه الحجة عنصراً أساسياً في الدعايات السوفياتية الرامية لتصوير واشنطن باعتبارها دولة معتدية بينما يمثل الاتحاد السوفياتي الحصن الآمن لـ«السلام» العالمي.
ومع فرض الاتحاد السوفياتي «ستاره الحديدي» عبر وسط وشرق أوروبا على ركام الحرب العالمية الثانية، هاجمت موسكو المعارضة التي تواجهها تحركاتها باعتبارها تحمل مخاطرة إشعال حرب عالمية ثالثة.
ولعب لفظ «السلام» دوراً محورياً في هذه الجهود، ذلك أنه من أجل الفوز بحلفاء محتملين في مواجهة الغرب، عمد الزعيم السوفياتي جوزيف ستالين إلى تنظيم مجموعة من مجموعات الواجهة والمؤتمرات السوفياتية التي تضم كلمة «سلام» في أسمائها، مثل «مجلس السلام العالمي». وبطبيعة الحال، لم يكن الهدف الرئيسي من وراء هذه الحملة الترويج لـ«السلام»، وإنما الرغبة في إثارة انطباع ضمني بأن أي شخص يشكك في منظمة أو مؤتمر يحمل «السلام» في اسمه يعتبر بالضرورة مناصراً للحرب.
من جانبه، سخر الروائي جورج أورويل في روايته الأشهر «1984» من هذا الاستغلال الرديء للغة عبر تخيله دولة كبرى ترفع شعار: «الحرب هي السلام والحرية هي العبودية والجهل هو القوة».
وعبر مختلف أرجاء العالم، ندد أفراد ومنظمات يزعمون أنهم معنيون بالسلام ويلقون دعماً من موسكو، بأي معارضة للسياسات السوفياتية باعتبارها معارضة فاشستية ستدفع العالم لهوة حرب عالمية جديدة. على سبيل المثال، عام 1949، أشار كل من «مؤتمر العمل الوطني من أجل السلام» في شيكاغو وصحيفة «ذي ديلي يوركر» الصادرة عن الحزب الشيوعي بالولايات المتحدة إلى أن «ثمة فرصاً جديدة لحشد قوة العمال في مواجهة مشعلي الحرب الباردة ويسعون لإشعال الحرب العالمية الثالثة». وفي العام التالي، انضمت الولايات المتحدة إلى مهمة تابعة للأمم المتحدة للتصدي لغزو كوريا الشمالية بدعم من الاتحاد السوفياتي والصين لكوريا الجنوبية. وحينذاك أعلن الحزب الشيوعي الأميركي أن «الإمبريالية الأميركية دخلت الآن المرحلة العسكرية المفتوحة من استعداداتها لإطلاق حرب عالمية ثالثة؛ ما يهدد بتوريط العالم بأسره في هولوكوست عالمي جديد».
ورغم انحسار الحديث عن الحرب العالمية الثالثة بدرجة كبيرة خلال سنوات التصالح، فإنه عاود للظهور بقوة في أعقاب انتخاب الرئيس رونالد ريغان والجدال الذي أعقب ذلك حول «الصواريخ الأوروبية»، والذي شكل واحداً من آخر المواجهات الاستراتيجية الكبرى أثناء حقبة «الحرب الباردة».
في أواخر سبعينات القرن الماضي، شرع الاتحاد السوفياتي في نشر رؤوس حربية نووية متوسطة المدى في شرق أوروبا. ومع دخول دول حلف «الناتو» في نقاش حول ما إذا كان ينبغي الرد على هذا الاستفزاز من خلال نشر أسلحة مشابهة على أراضيه، أطلق السوفيات حملة دعاية ترددت أصداؤها في أوساط المتعاطفين معهم داخل الغرب، تؤكد أن أي محاولة لردع هذا الابتزاز النووي السوفياتي سيسفر عن «هرمجدون» نووية.
وكان «أوقفوا الحرب العالمية الثالثة» عنوان كتاب نشره «مجلس السلام الأميركي»، الذي يعتبر الفرع الأميركي لـ«مجلس السلام العالمي» المدعوم من الاتحاد السوفياتي، عام 1981.
واليوم، وبمعاونة غربيين سذج، يشدد الروس على أن السماح لهم بالإفلات من تبعات الإقدام على غزو دول ذات سيادة والتحريض على القتل الجماعي داخل سوريا، يشكل شرطاً ضرورياً للحيلولة دون اشتعال حرب عالمية ثالثة.
وعلى الرغم من أن موسكو قادرة، بطبيعة الحال، على «تحويل الولايات المتحدة إلى كومة من الركام الإشعاعي»، حسب تعبير أحد مسؤولي الدعاية التابعين للكرملين في أعقاب ضم روسيا للقرم عام 2014، فإن إدراك روسيا حقيقة أن الولايات المتحدة تملك القدرات النووية ذاتها حال بقوة دون إقدامها على تنفيذ مثل هذا التهديد. وبالتأكيد لن تقدم موسكو على ذلك بسبب إطلاق عشرات الصواريخ من طراز «توماهوك» على دميتها المثيرة للمشكلات، الأسد.
ومما سبق يتضح أن إثارة فكرة «الحرب العالمية الثالثة» لا تأتي من قبيل التحذير الصادق من خطر حقيقي، وإنما من أجل تعزيز ثقافة استرضاء وخنوع ونفور من الحرب في صفوف الخصوم. ويكشف اعتناق الكثيرين داخل الغرب مثل هذا الخطاب عن تهافت جزء كبير من الخطاب الغربي المتعلق بالسياسة الخارجية.
* خدمة «واشنطن بوست»