صالح القلاب
كاتب أردني. وزير إعلام ووزير ثقافة ووزير دولة سابق، وعضو سابق في مجلس أمناء المجموعة السّعوديّة للأبحاث والتّسويق.
TT

«الثلاثية» غير العدوان الثلاثي... وحرب السويس كانت مواجهة قومية!

أكبر إساءة إلى مرحلة تاريخية، تختلف كثيراً عن هذه المرحلة، أنْ يُشبّه البعض الضربة الثلاثية الأخيرة، الأميركية – البريطانية – الفرنسية، لموقع «كيماوي» بقي ينتج أسلحة محرمة دولياًّ لطالما استخدمها نظام بشار الأسد بموافقة روسية وتشجيع إيراني ضد الشعب السوري والأطفال السوريين، بعدوان عام 1956 على مصر، حيث كانت حرب السويس مواجهة قومية مع غزاة ومحتلين.
ومما تجدر الإشارة إليه بدايةً هو أنه حتى الآن فإن أي جهة، بما في ذلك الروس والإيرانيون ونظام بشار الأسد نفسه لم تستطع إثبات أن هذه الضربة الثلاثية، الأميركية – البريطانية – الفرنسية، قد أسفرت ولو عن قتيل أو جريح واحد، وأنها كانت ضربة «نظيفة»، كما يقال في المصطلحات العسكرية، واقتصرت على تدمير منشأة دأبت على مدى أكثر من سبع سنوات متلاحقة على إنتاج ربما «أطنان» من أسلحة الدمار الشامل التي أزهق بها هذا النظام القاتل المجرم أرواح عشرات الألوف من السوريين من فئة «معينة» ومحددة معظمهم من الأطفال والنساء وربما ليس من بينهم ولا حتى مقاتل واحد من المعارضة الوطنية التي يلصق بها نظام بشار الأسد وحلفاؤه ومساندوه وأعوانه التهمة «الإرهابية»!
ربما أنَّ كثيرين من الذين أشبعوا أنفسهم نحيباً وتحسراًّ على تدمير هذه المنشأة، التي كانت متخصصة في صناعة الموت وتشويه أجساد الأطفال السوريين بالمواد الحارقة، لا يعرفون أنَّ الأميركيين والبريطانيين والفرنسيين عندما وجّهوا هذه الضربة الأخيرة، التي لم يثبت أنها أدت إلى مقتل سوري واحد، لا عسكرياً ولا مدنياً، كانوا ينفذون قراراً دولياًّ يجيز اللجوء إلى العمل العسكري إذا أسيء استخدام الأسلحة «الكيماوية» والأسلحة الفتاكة حتى خلال الحروب والمواجهات العسكرية المحدودة والشاملة.
لقد كان متوقعاً قبل توجيه هذه الضربة «التحذيرية» التي أغلب الظن أن المقصود بها، كما قال مندوب روسيا الاتحادية إلى مجلس الأمن الدولي والأمم المتحدة فلاديمير سافرونكوف، هو «إهانة» الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي تمادت قواته في استعراض عضلاتها في سوريا ضد الشعب السوري والأطفال السوريين لإثبات أن روسيا الاتحادية قد استعادت مكانة ونفوذ الاتحاد السوفياتي السابق عندما كان في ذروة غروره وعنجهيته وأرسل صواريخه «الاستراتيجية» المدمرة إلى كوبا الواقعة جغرافياً في الخاصرة الأميركية الرقيقة.
وحقيقة أنه ما كان على الرئيس فلاديمير بوتين، الذي هناك الكثير مما يُحسب له وما يُحسب عليه، أن يذهب بعيداً في تطلعاته الإمبراطورية وأن يحول بلداً عربياًّ هو سوريا، التي كانت أول دولة في هذه المنطقة تفتح أبوابها لروسيا السوفياتية وكان ذلك في عام 1949 في عهد حسني الزعيم، إلى حقل تجارب لأسلحته الفتاكة وصواريخه وبخاصة وهو يعرف تمام المعرفة أن هناك مثلاً يقول: «على قدْ غطاك مِدْ رجليك»، وأن أوضاع روسيا الاقتصادية المشرفة على الانهيار لا تسمح له بكل هذا التحدي للولايات المتحدة ومعها بالطبع حلفاؤها الأوروبيون وداعموها في هذه المنطقة الشرق أوسطية والعالم بأسره.
وهنا فإن المفترض أن بوتين يعرف بحكم «خدمته» في «كي جي بي» أنَّ نهاية الاتحاد السوفياتي وانهياره كان سببها الأول غزوه الاحتلالي لأفغانستان وتمدده أكثر من اللزوم في العالم وبخاصة في أوروبا الشرقية وكل هذا كان في ظل أوضاع اقتصادية متهاوية وبقيادة حزب هو الحزب الشيوعي الذي كان قد نخره الفساد وغدا مع الوقت متورماً «سرطانياً» فكانت نهايته على يد ميخائيل غورباتشوف وبعده بوريس يلتسين تلك النهاية المأساوية التي كانت في الوقت ذاته نهاية دول أوروبا «الشيوعية» كلها... كلها ومن دون استثناء حتى ولا دولة واحدة!
وهكذا وعوْدٌ على بدء، كما يقال، فإنَّ أسوأ ما قيل من قبل «الأُميين» سياسياً وتاريخياًّ والمنحازين انحيازاً أعمى إلى نظام بشار الأسد، الذي كان بدأه أبوه حافظ الأسد بانقلاب عسكري على «رفاقه» في عام 1970، وحيث، كما هو معروف، أرسل ليس معظم لا بل كل رموزهم القيادية إلى زنازين المزة إلى أن فارقتهم أعمارهم هناك، هو تشبيه هذه الضربة الثلاثية بـ«العدوان الثلاثي» على مصر في عام 1956... فهذا تجنٍّ على الحقائق وتعدٍّ جاهلي على أحداث التاريخ التي لا تزال حاضرة في أذهان كثيرين من الذين عاشوا تلك المرحلة التي غدت متقدمة لكنها لا تزال غير بعيدة.
كان العدوان الثلاثي، البريطاني - الفرنسي - الإسرائيلي، على مصر عام 1956 رداًّ على تأميم قناة السويس ومحاولة لإسقاط نظام رأت هذه الدول الثلاث أن توجهاته تشكل خطراً عليها في هذه المنطقة «الاستراتيجية» كلها. والمعروف أن العرب بغالبيتهم، إنْ لم يكن كلهم، قد اعتبروا أن تلك الحرب كانت حربهم وأن تلك المعركة كانت معركتهم، وهكذا فقد حرك بعض الدول العربية بعض قطاعاتها العسكرية لإسناد الجيش المصري، وهذا بالإضافة إلى أن أعداداً كثيرة من المتطوعين العرب قد توجهوا إلى أرض الكنانة للقتال كـ«فدائيين» في تلك المواجهة القومية. وهنا تقتضي الأمانة الإشارة إلى أن من بين هؤلاء عدداً من الأمراء السعوديين في مقدمتهم خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز والأمير سلطان بن عبد العزيز، رحمه الله.
لم يكن النظام القائم في مصر عام 1956 وعلى رأسه جمال عبد الناصر، قد ارتكب حتى ولا موبقة واحدة من هذه الموبقات التي ارتكبها نظام بشار الأسد ونظام والده لا في سوريا ولا في خارجها منذ عام 1970 حتى الآن. ولم يكن، أي الرئيس المصري الأسبق، قد أرسل جيش مصر لقتال دولة عربية دعماً لدولة إقليمية غير عربية على غرار ما فعله حافظ الأسد عندما أرسل قواته العسكرية للقتال إلى جانب إيران الخمينية ضد دولة عربية هي العراق التي كان جيشها أول الواصلين إلى جبهة الجولان في حرب عام 1973 مع إسرائيل وفي كل الحروب السابقة.
ثم، وهذا يجب أن يقال للذين يشبّهون الضربة الثلاثية الأخيرة، الأميركية – البريطانية – الفرنسية، لمنشأة نظام بشار الأسد «الكيماوية» بالعدوان الثلاثي على مصر، إنه لم يسجَّل على أرض الكنانة أيٌّ من كل هذه الموبقات والجرائم التي ارتكبها هذا النظام السوري إنْ في عهد «الوالد» وإن في عهد «الابن»، في لبنان أولاّ ضد الفلسطينيين وثانياً ضد اللبنانيين. ولعل ما يجب أن يكون معروفاً هو أن دويلة ضاحية بيروت الجنوبية التي على رأسها حسن نصر الله «المقاتل في فيلق الولي الفقيه» قد أنشأتها المخابرات السورية بالتعاون مع المخابرات الإيرانية، وهذا يعني أنه تجنٍّ ما بعده تجنٍّ أن تُشبه هذه الضربة التي استهدفت أسلحة محرمة دولياًّ بحرب سببها تأميم قناة السويس، كانت في حقيقة الأمر بمثابة حرب على الأمة العربية كلها من المحيط إلى الخليج.
إن المعروف أنَّ الولايات المتحدة، وكان رئيسها في ذلك الحين هو جنرال الحرب العالمية الثانية دوايت آيزنهاور، قد وقفت في حرب السويس عام 1956 إلى جانب مصر وإلى جانب الأمة العربية، أمّا الآن فإنها بمشاركتها في هذه الضربة الثلاثية الأخيرة فإنها قد لجأت إلى هذا العمل العسكري استهدافاً لأسلحة «كيماوية» قد أسيء استخدامها، واستهدافاً للوجود الروسي والإيراني الاحتلالي في سوريا، وأيضاً «إهانةً» للرئيس فلاديمير بوتين، كما قال المندوب الروسي في الأمم المتحدة.
وعليه فإنه ما لا شك فيه أن هذه الضربة الثلاثية هي ضربة تحذيرية للروس أولاً وللإيرانيين ثانياً ولنظام بشار الأسد ثالثاً، ولعل ما يؤكد هذا أن الولايات المتحدة قد أعلنت، خلافاً لتوجهات الرئيس دونالد ترمب السابقة، بقاء قواتها في سوريا من دون تحديد أي موعد لانسحابها، وهذا يعني أن الأزمة السورية قد دخلت مساراً جديداً، وأنه إن لم يتم إنعاش الحل السياسي وفقا لـ«جنيف1» والمرحلة الانتقالية، فإنه غير مستبعد أن تكون هناك مواجهة عسكرية يقدّر البعض أنها قد تأخذ هيئة الحرب العالمية الثالثة ولكن بشكل غير شكل الحربين العالميتين السابقتين.