ستيفن كارتر
TT

الخصوصية الرقمية... قلق وجواسيس

ثارت الصحف في الفترة الأخيرة بسبب تقارير تفيد بأن وزارة الأمن الداخلي اكتشفت أدلة حول استغلال أطراف «غير مصرح لها» أدوات لتعقب الهواتف الجوالة داخل واشنطن وحولها. وتُعرف مثل هذه الأدوات رسمياً باسم أجهزة رصد هوية مشتركي الهاتف الجوال الدولية، وتُعرف اختصاراً باسم «آي إم إس آي».
وتملك هذه الأدوات القدرة على خداع الهواتف الجوالة وإيهامها بأنها على اتصال ببرج خدمة جوال. وبمقدور هذه الأدوات استغلال الإشارات الصادرة عن الهاتف الجوال لتتبع تحركاتك واتصالاتك. وفي بعض الحالات، ربما تفلح في إقناع هاتفك بوقف التشفير الخاص به. في الواقع، تنطوي هذه الأدوات على تكنولوجيا قوية ومخيفة. إلا أن الأكثر إثارة للفزع والخوف أن السلطات من جانبها اعترفت بأنه رغم تمكنها من رصد مثل هذه الأجهزة، فإنها تعجز عن العثور على أماكنها على وجه التحديد. ومع هذا، تبقى ثمة أسباب ثلاثة تجعل من الضجة المثارة حول هذه الأنباء داخل واشنطن أمراً مبالغاً فيه.
بادئ ذي بدء، لا يعد لجوء أطراف، غير مصرح لها، إلى استغلال أجهزة «آي إم إس آي» بالأمر الجديد، فقد ناضل النشطاء المعنيون بالخصوصية على مدار فترة طويلة لتقليص الاعتماد على تلك الأجهزة من جانب سلطات إنفاذ القانون، على أساس أنها تستغلها في جمع كميات هائلة من البيانات حول أفراد لا تحيطهم أي شبهات. إلا أن متخصصين في الحقل التكنولوجي أطلقوا تحذيرات منذ سنوات حول إمكانية استخدام هذه الأجهزة من جانب عناصر إجرامية وحكومات أجنبية. وقد أوجز مقال نشرته «دورية هارفارد للقانون والتكنولوجيا» الأمر في العبارة التالية: «بمقدور استخبارات أجنبية معادية -ويكاد يكون في حكم المؤكد أنها تفعل ذلك بالفعل- استغلال هذه التكنولوجيا داخل البلاد لأغراض التجسس».
ويعني ذلك أن القضية التي أثارت القلق العارم في أرجاء البلاد فجأة قائمة بالفعل منذ فترة -فترة كافية لدرجة أن بعض الشركات طوّرت أدوات تعيننا على كشف وجود مثل هذه الأجهزة. جدير بالذكر أن باحثين في جامعة واشنطن أعلنوا العام الماضي أنهم طوروا تكنيكات لكشف وجود أجهزة «آي إم إس آي» داخل سياتل وحولها.
ويعني ما سبق أنه رغم أنه من المفيد بالتأكيد أن يجد المرء أن الشكوك التي لطالما ساورته قد تأكدت، فإن فكرة وجود أجهزة «آي إم إس آي»، بتصريح أو من دون تصريح، لا تنبغي أن تكون أمراً جديراً بكل هذه التغطية الإعلامية المكثفة.
أما الأمر الثاني فهو مثلما قال جون لو كاري، فإن التجسس أمر أزلي. وعليه، فإنه من غير المنطقي أن نبدي كل هذه الدهشة إزاء فكرة أن قوى أجنبية تحاول استغلال ذات الأدوات التي كنا لنستخدمها ضدها إذا لم تُتح أمامنا أدوات أفضل. الملاحظ أن الأميركيين دوماً ما يشعرون بالصدمة لعلمهم أنهم ليسوا بمأمن من نشاطات التجسس. بيد أنه في الواقع تعد نشاطات التجسس عمليات ثأر تقوم على مبدأ العين بالعين، في الوقت الذي تعد الهواتف التي يدمن الأميركيون استخدامها أهدافاً جذابة للغاية. والملاحظ أن الأميركيين يرسلون بكميات ضخمة من البيانات طيلة الوقت عبر الأثير. لذا، لا ينبغي أن يشعروا بالدهشة لإذعان حكومات أجنبية (أو أياً ما كان المقصود من أطراف غير مصرح لها) لإغراء استكشاف تلك البيانات التي نتبادلها.
وثالثاً، لا ينبغي أن نسمح لأنفسنا بإغفال حقيقة أن الكثيرين ممن لا يعملون جواسيس يتجسسون بالفعل علينا -مثل شركات خدمات الجوال، ومثل كل موقع إلكتروني تزوره. (إلا أنه ليست جميع المواقع الإلكترونية متساوية على هذا الصعيد، فقد خلصت دراسة أجرتها جامعة برنستون عام 2016 حول أكثر المواقع الإلكترونية التي يزورها الأفراد، إلى أن المواقع الإخبارية هي الأكثر اقتحاماً لخصوصية الأفراد، بينما المواقع الحكومية والأخرى الخاصة بالمؤسسات التعليمية هي الأقل)، ومع أن البيانات التي يجمعها معظم المواقع تبقى رسمياً مجهولة، فإن التغلب على هذا التجهيل ربما لا يكون بالمهمة الشاقة، خصوصاً في ما يتعلق بمواقع التواصل الاجتماعي. وقد كشف باحثون من جامعتي ستانفورد وبرنستون خلال دراسة نشروها عام 2017، كيف أنهم تمكنوا من تحديد هوية 30 رابطاً مجهولاً تنتمي جذورها إلى «تويتر إنك»، بنسبة دقة بلغت 50%.
ويأتي هذا حتى قبل أن نتحول إلى «فيسبوك إنك». الآن، أود تأكيد أنني لست متحمساً إزاء مهاجمة شركة تمر بفترة عصيبة بالفعل. لذا، دعوني أبدأ حديثي بقول إن المستخدمين الذين يضجون بالشكوى اليوم إزاء وقوع بياناتهم «المجهولة» في أيدٍ خطأ، لم يتفحصوا بعناية شروط خدمة «فيسبوك» قبل التوقيع عليها بالقبول. في الواقع إن التحدي القائم أمام المستخدم المعني حقاً بخصوصيته لا يتعلق بأطراف ثالثة، وإنما بـ«فيسبوك» ذاته الذي جاء إلى الوجود لا ليربط بينك وبين أصدقائك، وإنما لاستغلال نشاطاتك عبر الإنترنت في بيع إعلانات مستهدفة. ولحسن الحظ، ترجمت الشركة في الفترة الأخيرة قائمة البيانات التي تجمعها عن مستخدميها من لغة قانونية معقدة إلى ما يشبه الإنجليزية، وأي شخص من إجمالي مستخدمي «فيسبوك» الذين تتجاوز أعدادهم 2 مليار نسمة بمقدوره إلقاء نظرة عليها الآن.
وفي النهاية، أؤكد أنه من الطبيعي أن نقلق بشأن الخصوصية الرقمية -وساورنا قلق حيالها بالفعل- لكن علينا التوقف عن التصرف كأننا أطفال يضجون بالشكوى ويهرعون إلى آبائهم كلما واجهتهم حقيقة قاسية تتعلق باستخدام بياناتنا، خصوصاً عندما نسمح لموظفين غرباء في شركات عملاقة بالاطلاع على هذه البيانات عن طيب خاطر منا.
*بالاتفاق مع «بلومبيرغ»