علي العميم
صحافي ومثقف سعودي بدأ عمله الصحافي في مجلة «اليمامة» السعودية، كتب في جريدة «الرياض» وكتب في جريدة «عكاظ» السعوديتين، ثم عمل محرراً ثقافياً في جريدة «الشرق الأوسط»، ومحرراً صحافياً في مجلة «المجلة» وكتب زاوية أسبوعية فيها. له عدة مؤلفات منها «العلمانية والممانعة الاسلامية: محاورات في النهضة والحداثة»، و«شيء من النقد، شيء من التاريخ: آراء في الحداثة والصحوة في الليبرالية واليسار»، و«عبد الله النفيسي: الرجل، الفكرة التقلبات: سيرة غير تبجيلية». له دراسة عنوانها «المستشرق ورجل المخابرات البريطاني ج. هيوارث – دن: صلة مريبة بالإخوان المسلمين وحسن البنا وسيد قطب»، نشرها مقدمة لترجمة كتاب «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة» لجيميس هيوارث – دن مع التعليق عليه.
TT

سياسة التعليم والسياسة الإعلامية السعودية: هل من تشابه؟

يقول الدكتور أحمد العيسى في كتابه: إصلاح التعليم في السعودية... عن وثيقة سياسة التعليم في المملكة العربية السعودية الصادرة في عام 1968: «فإن الوثيقة لا يزال لها حضور في السجال الفكري – على أقل تقدير – حيث إن بعضهم ينظر إليها وكأنها نص ديني مقدس يحرم نقده أو تغييره، مما أدى إلى انطلاق مشاريع التطوير في كل اتجاه، مع تجاهل لتلك الوثيقة وعناصرها، ففقد النظام التعليمي – بذلك – الأسس الفكرية والتربوية التي يستند إليها، والتي توضح مساراته واتجاهاته العامة».
حاولت أن أتذكر هذا السجال، فلم أفلح في تذكره. فقلت لعله سجال فاتتني متابعته.
سألت ثلاثة أصدقاء مثقفين متابعين للنقاشات والسجالات في الصحف السعودية ومتابعين للحراك الثقافي في السعودية عبر أقنيته المختلفة عن ذلك السجال، إن كانوا يعلمون به أو يعلمون عنه شيئاً. فأخبروني أنه قبل صدور كتاب العيسى لا يتذكرون أن سجالاً حصل حول الوثيقة. وقالوا: إنه ربما يقصد ما كتبه الدكتور عبد الله الحامد وحسن المالكي عن المقررات المدرسية الدينية، وما كتبه إبراهيم السكران وعبد العزيز القاسم في ورقتهما: «المقررات الدراسية الدينية: أين الخلل؟ قراءة في التعامل مع الآخر والواقع والحضارة» التي ألقيت في ملتقى الحوار الوطني الثاني المعقود في مكة في عام 2003 وأضافوا: إن ما كتبه هؤلاء ليس فيه نقاش أو حتى ذكر للوثيقة، وإن الورقة قوبلت بالاحتفاء والإشادة من قبل كثيرين ينتمون إلى تيارات مختلفة. ولم تثر خلافاً أو سجالاً حولها. وهذا يقودني إلى تسجيل ملحوظة مفادها، أنه كان يفترض بالدكتور أحمد العيسى أن يمد قارئه بمعلومات عن ذلك السجال: متى وأين وكيف حصل؟ ومن هم أصحابه؟
إنني مع جهلي بهذا السجال الذي أشار إليه إشارة خاطفة ومبهمة إلا أنني أنفي أن أحداً من الإسلاميين ينظر إلى الوثيقة كأنها نص ديني مقدس يحرم نقده أو تغييره. فتعليله هذا الذي استعمل كلمات كبيرة فيه كان هدفه الدفاع عن هذا «البعض» وتلمس العذر له، من خلال تصويره بالصالح الغر الذي يخلط – لتوفر حسن النية وشدة الورع لديه – بين الزمني والمقدس أو بين البشري والإلهي.
وسيتلقف هذا «البعض» بعد سنوات من صدور كتاب العيسى هذا التعليل الاعتذاري بالنفي المتأخر. فحين كتب الدكتور علي الموسى في مقاله الأسبوعي في جريدة «الوطن» مقالاً صاخباً في عنوانه وفي متنه، ينقد فيه وثيقة سياسة التعليم في السعودية، حرص اثنان من الإسلاميين الذين ردوا عليه على أن يؤكدا أن الوثيقة ليست نصاً مقدساً، ولا كتاباً منزلاً، رغم أن الدكتور علي في مقاله الصاخب لم يدع أنهم – أو بعضهم – يعتبرون الوثيقة نصاً مقدساً، أو كتاباً منزلاً، بل هو يرى أن الإسلاميين، غير السعوديين، كاتبي الوثيقة – كما يستنتج من بعض العبارات في مقاله – زُمُر من المحتلين والأعداء والغرباء والأشرار!
فردهما عليه، بذلك النفي كان في غير مقامه ولا مناسبة له، وإنما هما استطابا تهمة العيسى لذلك «البعض» - هذا إن صح أنها تهمة – واستطابا أكثر نفيها!
إن الإسلاميين السعوديين المخضرمين – كما قلنا في المقال السابق – يعتبرون الوثيقة، وإن كانت وثيقة حكومية، أنها – بالدرجة الأولى - وثيقتهم هم، فهي تعبر عن المشترك والمتفق عليه في الحركات الإسلامية في العالم العربي وفي العالم الإسلامي. فلقد صاغها أساتذتهم ومشايخهم ومنظروهم وقادتهم الفكريون والروحيون من هذين العالمين، وكان على رأسهم أبو الأعلى المودودي وأبو الحسن الندوي، وساهم فيها لفيف من الإخوان المسلمين من العالم العربي.
وهم يعرفون أن الوثيقة لم توضع قيد التنفيذ إلا بعد ما يربو على العقد بقليل. ويعرفون أنها طبقت – على نحو أشد وأغلظ - مما كتب فيها في سنوات تالية للتاريخ المومأ إليه. وهم يتمسكون بها لأنها نص حكومي رسمي، لإلزام الحكومة وفئات في المجتمع بها. ولعلّ هذا الرأي يجمع الموالي للحكومة والمعارض لها من الإسلاميين، سواء أكانوا سعوديين أم غير سعوديين.
فالمسألة مسألة تكتيك سياسي ومراوغة آيديولوجية في الدفاع عن مكتسبات ومنجزات الحركة الإسلامية، وليست مسألة دروشة وسذاجة عقائدية.
يتشابه تعامل الإسلاميين مع الوثيقة بعض الشيء مع تعاملهم مع وثيقة «السياسة الإعلامية في المملكة العربية السعودية» الصادرة في عام 1982. فهذه الوثيقة كانت من ضمن المقررات علينا في كلية الدعوة والإعلام بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وكانت بعض بنودها التي هم راضون عنها، تستغل من قبل بعض من درسونا إياها، في تحرير دعاوى متعصبة ومتشددة ومتطرفة مثل أن الإعلام السعودي بمختلف وسائله مخالف لسياسته الإعلامية. وأن الإعلام السعودي لا تنطبق مواصفات الإعلام الإسلامي عليه، والإعلام الإسلامي هذا كان تنظيراً افتراضياً ومثالياً كانوا يدرسوننا إياه، ويعدّونه إعلاماً مغيباً في الدولة العربية والإسلامية، مثله في هذا – حسب رؤيتهم – مثل الحكومة الإسلامية والاقتصاد الإسلامي... إلخ وثيقة السياسة الإعلامية ينقصها بنود لتكون «إسلامية»، ولينطبق عليها مفهوم الإعلام الإسلامي في إطاره النظري وفي تطبيقه العملي. انتقاد مبطن للحكومة أنها لم تعمل سياستها في الواقع العملي في البنود المرضي عنها عندهم والتي كانوا يستغلونها في أكثر من اتجاه. وهذا الانتقاد المبطن قائم على رؤية إسلامية أصولية مغالية ومتحاملة لما كان ينشر ويذاع ويبث في الإعلام السعودي في أواسط ثمانينات القرن الماضي وفي منتصفه الأخير.
هذا مع الأخذ بعين الاعتبار أن تلك الدعاوى التي حرروها، حرروها في وقت كان الإعلام السعودي فيها شديداً في محافظته الدينية والاجتماعية والثقافية والفكرية. وكان الغرض منها أن يبسطوا نفوذهم على الإعلام السعودي وأن يغيروه، كما بسطوا نفوذهم على التعليم وغيروه إلى ما يعبر عن فكر الحركة الإسلامية، ويخدم عقائدها ومصادرها ومصالحها ورموزها وتاريخها.
ننتقل الآن من مناقشة ما قاله عن وثيقة سياسة التعليم في الفصل الأول إلى مناقشة ما قاله عنها في الفصل الثالث من كتابه.
يقول عنها في هذا الفصل: «إنها صدرت في ظل ظروف سياسية داخلية وخارجية بالغة الحساسية والدقة كانت سائدة في عقد الستينات الميلادية، مما أثر في صياغة الوثيقة، كما أثر – أيضاً – في مبادئها وأهدافها.
لقد كانت المنطقة متأثرة بالفكر القومي العربي، وكان المد القومي الناصري في عنفوانه وزخمه، كما كانت الأفكار الشيوعية تكتسب أهمية لدى الشاب... لقد كانت المملكة – في ذلك الوقت – تعتمد في نظامها التعليمي على الخبراء العرب في صياغة مناهج التعليم، وعلى المعلمين والمعلمات من البلاد العربية... مما أوجد الخشية من تأثير التيارات القومية والشيوعية على الشباب في المدارس والجامعات، ولهذا سعت الدولة – في تلك الفترة – إلى استقطاب العلماء المناهضين للشيوعية والقومية...».
كل هذا الكلام تعوزه الدقة، ولعل ما يشفع لصاحبه أنه في الجزء الأول منه، هو كلام يقول كثيرون به من السعودية ومن خارجها من غير المحسوبين على تيار الصحوة الإسلامية. وما هو خاص به هو أنه جعل من الإسلاميين قوماً فاترين لا يَخفّون إلى نشاط إلا إذا عرّضتهم لإغراء الاستقطاب وأطايبه. ومع أنه لم يبن عن فحوى هذا الاستقطاب ونوعه إلا أننا نعلم من تتمة كلامه، أنه بعد استقطابهم «كان لهم دور مؤثر في صياغة سياسة التعليم، التي انبثقت فلسفتها من فلسفة الإسلام الشمولي الأممي، الذي نجده في كتابات مفكري التيارات الإسلامية في ذلك الوقت».
إن الوثيقة – كما لمحنا – صاغها إسلاميون من العالم العربي ومن العالم الإسلامي، وكانوا سيكتبون الوثيقة بالصيغة التي كتبوها بها في ظل تلك الظروف التي أشار هو إليها وفي ظل عدم وجودها، لأنها تجسد جزءاً من مشروعهم، مشروع التعليم الإسلامي، المصاغ وفق تنظيرات الإسلام الجديد، إسلام الحركات الإسلامية الأصولية.
إن أقدم خطاطة نعرفها كتبت في ذلك المشروع هو مقال أبي الحسن الندوي: «كيف توجه المعارف في الأقطار الإسلامية» المنشور في جريدة «البلاد السعودية» في عام 1950. كتبه في زيارته الثانية للحجاز. وزيارته الأولى (1947)، وزيارته الثانية جاءتا بمبادرة منه. وكان الغرض من الزيارة الأولى تفقد أحوال جماعة التبليغ وتثبيت وجودهم في الحجاز مع التبشير بالإسلام الجديد أو المحدث أو المبتدع. أما الغرض من الزيارة الثانية فهو قاصر على هذه المهمة، لتتعدى هذه المرة زيارة الحجاز إلى زيارة مصر والسودان وسوريا والأردن وفلسطين. وكان في نيته أن يشمل لبنان بزيارته هذه، لكن الظروف لم تسنح له. وفي هذين التاريخين لم تكن لأبي الحسن الندوي، الداعية الهندي الشاب للإسلام الحركي، صلة ما بشخصيات في الحكومة السعودية. وللحديث بقية.