إميل أمين
كاتب مصري
TT

ولي العهد السعودي في سياتل... حديث المهمة والاستراتيجية

تستمر زيارة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان إلى الولايات المتحدة، في إطار من الرؤية المتكاملة لرجل يحمل على عاتقه مشروعاً رؤيوياً عملاقاً يبشر بنهضة كبرى شاملة.
المهمة تحدد الهدف مجيبة عن السؤال لماذا؟ والاستراتيجية تضع الخطة مجيبة عن السؤال كيف؟
أما لماذا فلكي تلحق بلاده بركب الحضارة، وعن كيف فلا سبيل إلى بلوغ تلك العتبة الإنسانية إلا من خلال العمل والأمل صباح مساء كل يوم، ضمن خيوط وخطوط من الإرادة التي تقدر أن تعيش حلمها وتجدد وسائله، إرادة لا مكان فيها للعجز الذي ليس لديه غير أن يعيش في حلم الآخرين ويذوب فيه.
خلال الأيام القليلة المنصرمة كانت زيارات الأمير محمد بن سلمان إلى مدينة سياتل بنوع خاص تعكس إحدى أهم سماته المميزة كاستراتيجي ناجح، يعمل من خلال مطابقة أهدافه للموارد التي يحوزها، والمملكة تحوز أهم ما يحتاجه الانطلاق للنجاح في آفاق العالمية... الرجال والمرجعيات.
حين يلتقي الأمير محمد مع رئيس شركة مايكروسوفت، وكذلك مع وجه أميركا الأشهر بيل غيتس، فإنه حتماً يشق طريقاً صاعداً لأجيال سعودية قادمة عبر المعرفة الرقمية والتنموية الخلاقة التي تجعل من رؤية السعودية 2030، واقعاً حياً معاشاً تلمسه الأيادي لا حلماً طهرانياً تتطلع إليه الأنفس في الخيال.
اللقاءان يؤكدان إيمان ولي العهد بأن العلم والمعرفة هما طوق النجاة الوحيد في محيط مشكلاتنا الهادر، وملاذنا الأخير في غابة لا يعيش فيها إلا الأقوى والأكثر علماً، قال الشاعر العربي: بالعلم والمال يبني الناس ملكهم... لم يبنَ ملك على جهل وإقلال.
في مدينة سياتل كذلك كان اللقاء مع جيف بيزوس المؤسس والرئيس التنفيذي لشركة أمازون من أجل بحث فرص الاستثمار في السعودية، مما يعني أن ولي العهد يقظ لفكرة المحركات الستة التي تغير العالم، والتي أوردها نائب الرئيس الأميركي السابق آل غور في مؤلفه الشهير عن «المستقبل»، وفي المقدمة منها أن هناك حالة من نشوء وارتقاء اقتصاد عالمي مترابط بشكل عميق، ويعمل على نحو متزايد ككيان كلي متكامل تماماً وله علاقة جيدة مع تدفقات رأس المال.
وحال إدراك حقيقة ما تمثله «أمازون» الإمبراطورية التجارية التي تبحث اليوم عن تعميق شراكاتها الاقتصادية مع المملكة، وبحثها عن فرص استثمارية جديدة في السوق السعودية، فإن المعادل الموضوعي لهذا الفهم هو نقلة اقتصادية تقدمية تتجاوز ما درج عليه من قواعد نمطية وفق رؤية كلاسيكية تجاوزتها ظهور شبكة اتصالات إلكترونية تجارية على نطاق كوكب الأرض برمته، شبكة تربط السلع والخدمات بالأفكار والمشاعر لمليارات البشر، ينمون ويتوسعون أفقياً ورأسياً في الزمان والمكان.
يلفت النظر في زيارة مدينة سياتل الشراكة الاقتصادية والمعرفية العسكرية التي رعاها ولي العهد مع شركة «بوينغ» من أجل توطين أكثر من 55 في المائة من الصيانة والإصلاح وعمرة الطائرات الحربية، ذات الأجنحة الثابتة والطائرات العمودية في المملكة، إضافة إلى نقل تقنية دمج الأسلحة على الطائرات، وتوطين سلسلة الإمداد لقطع الغيار داخل المملكة.
هل نحن إزاء نهضة استشرافية مزدوجة؟
أغلب الظن أن ذلك كذلك وهي تمضي في مسارين: الأول هو جعل المعرفة والتكنولوجيا العسكرية واقعاً مقيماً تفيد منه الأجيال الشابة، وبحيث تكون الشراكة الحقيقية مع الولايات المتحدة الأميركية، شراكة عقول، وهذا هو الأهم، أي فتح مجالات الاستثمار في البشر قبل الحجر، سيما وأن المشروع الذي تم التوقيع عليه تفوق إجمالي إيراداته 22 مليار دولار، ويضيف لسوق العمل السعودية نحو ستة آلاف وظيفة بحلول عام 2030، وبحجم استثمارات يصل إلى 450 مليون دولار.
فيما الدرب الآخر يتصل بتحديث ترسانة المملكة العسكرية في منطقة مضطربة، وفي ظل قوى بعينها تترصد أي نهضة عربية عامة وسعودية خاصة، وفي صراعات الشعوب والأمم يكون الحكم هو إمكانيات القوة وليس إجراءات العدل، وقديما قال ونستون تشرشل: «أنت لا تستطيع أن تفاوض إلى مدى أبعد من ذاك الذي تصل إليه نيران مدافعك».
زيارة سياتل الأخيرة تشي بأن هناك فهماً راقياً ورائقاً من القيادة السعودية الشـــــابة لحال العالم الحديث، حيث التوازن الواجب الوجود بين القوى السياسية والاقتصــــادية والعســـــكرية، الأمر الذي يختــــــلف جذريـــــــــاً عن ذاك الذي اتســــــم به النصف الثاني من القرن العشرين.
منذ أن تولى الأمير محمد بن سلمان ولاية العهد، وفي زياراته الخارجية كافة بان جلياً للمتابعين أن جلّ مراده هو الصعود ببلاده إلى مصاف القوى الكبرى، الساعية للاستقرار والسلم من جهة، والقادرة على تحقيق المعادلة الصعبة المتصلة بالشروط الأساسية للقوى الجيوسياسية والجيواستراتيجية الواعدة، والتي تبدأ من حدود التماسك الاجتماعي الداخلي، هذا الذي يضمن لها تضافر الجهود من أجل التلاقي على هدف قومي محدد بات يتمثل في رؤية الابتكار والإبداع والتجديد 2030، مما يوفر قاعدة اقتصادية عملاقة تجعل من القوة المسلحة وإمكاناتها أمراً حتمياً لحماية النمو السريع والمستدام.
زيارة سياتل انحياز للمستقبل، والتماس لروح العصر، وتغليب للعقلانية على الخرافة، وتحديد الموقع والموضع من الآخر.
إنها إرادة شعب لنهضة سعودية عملاقة تتحقق على أرض الواقع.