خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

سارة خاتون

أغرق الإرهابيون والطائفيون العراق في السنوات الأخيرة بشتى الانتهاكات لحقوق الإنسان والاعتداء على المكونات الدينية والإثنية. وفي هذه الظروف علينا أن نتذكر الشهامات والبطولات والكرامات التي يعتز بها العراق. وكان من أروعها هذه الحكاية الرائعة التي خلدت باسم سارة خاتون.
سبق لي في عدة مراحل من حياتي أن اختلطت بإخواننا الأرمن ووجدت أن نساءهم من أحرص النساء على عفتهن والذود عن شرفهن. وأعطتنا سارة خاتون مثالاً لما أقول. توفي والدها في القرن التاسع عشر وهي في سن الشباب. وكونها شابة مسيحية حضرت حفلة رقص راقية حضرها الوالي ناظم باشا. ما أن وقعت عيناه عليها حتى هام بحبها. حاول أن يراودها فأبت. ثم أرسل لها من يدعوها لبيته فرفضت الدعوة. وأخيراً لم يجد غير أن يخطبها ويتزوجها، فردته. تحول حبه لها لما يشبه الجنون. أصبح في الواقع «مجنون سارة».
بعث شرطته إلى بيتها ليقتحموه ويأتوه بها غصباً. فتسلقت جدار البيت وهربت والتجأت إلى القنصلية الألمانية. آواها القنصل لبضعة أيام ثم تخوف من تعكير العلاقة مع العثمانيين حلفائهم. فهرّبها إلى بيت نقيب بغداد. ما أن سمع الوالي بذلك حتى أرسل الجندرمة لمحاصرة البيت ومنعها من الهروب.
شاع أمرها بين السكان فتظاهر المسلمون في الشوارع ينشدون الأناشيد التي نظموها ولحنوها خصيصاً للمناسبة احتجاجاً على الوالي وتأييداً لها. وبادرت الصحف المحلية لتتبنى قضيتها. وفي إسطنبول أثار النائب العراقي إسماعيل حقي بابان موضوعها في مجلس المبعوثان.
وسرعان ما أصبحت قضية سارة خاتون قضية عالمية شاع أمرها بين الناس في أوروبا. انبرى الشاعر جميل صدقي الزهاوي، الشاعر المعروف فنشر قصيدة بعنوان «طاغية بغداد». قال فيها:

رام هتكاً لما تصون فتاة
كسبت في أمر العفاف اشتهارا
بنت قوم لم يدنس العرض منهم
بقبيح هم من سراة القوم النصارى
يا مهين العراق هل كنت تدري
إن أهل العراق ليسوا غيارى

اشتد الحصار على بيت النقيب وراح الوالي، مجنون سارة، يضغط عليه لتسليمها إليه. لم تعرف كيف تستطيع أن تغادر هذا البيت والشرطة تحيط به. بيد أن سكان الحارة تجمعوا واختلقوا حادثة شوشت الشرطة وأبعدتهم عن البيت حتى تمكنت سارة من اختراق الحصار والهرب بعربة أجرة.
وصلت شارع النهر فلحقت بها الشرطة وهناك هب الفلاحون لنجدتها فهجموا بفؤوسهم ومساحيهم على الشرطة حتى خلصوها منهم. أسرعت فالتجأت للقنصلية البريطانية. وبعد أيام تمكن القنصل من تهريبها إلى باخرة من شركة لنج في طريقها إلى البصرة تحمل العلم البريطاني، فلم يعد بيد الشرطة اختراق سيادتها. نقلوها أخيراً إلى باخرة روسية أوصلتها للهند.
أصبحت قضيتها شأناً عالمياً فاضطر السلطان إلى تنحية الوالي. ولكنّ جنون حبه لم يهدأ فلحق بها إلى الهند. بيد أن الإنجليز أخفوها فاضطر للعودة بخفي حُنين. أصبحت حكايتها رمزاً لمآثر الشعب العراقي في نصرة المظلوم وحق المرأة في عفتها وشرفها مهما كانت ديانتها، كما اتضح من هذه القصة الملحمية.