جوش روغين
صحفي أميركي
TT

صحوة النظام الدولي الليبرالي

عانى أنصار ما يعرف باسم «النظام الدولي الليبرالي»، خلال الفترة الأخيرة، بانتكاسات على أيدي خصوم داخل أوطانهم وخارجها. ومع هذا، يعكف الراغبون في الإبقاء على وتعزيز النظام العالمي الذي أقره ويقوده الغرب منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، على التخطيط لإحداث صحوة بهذا النظام.
يذكر أنه عندما تعاونت الولايات المتحدة ودول أوروبية خلال النصف الثاني من القرن العشرين لبناء علاقات ومؤسسات متعددة الأطراف بهدف تعزيز ونشر القيم الليبرالية مثل حكم القانون والديمقراطية والأسواق المفتوحة وحقوق الإنسان، بدا ذلك انحرافاً عن النهج العام السائد حينها. في الواقع، لقد سار هذا المشروع عكس اتجاه قرون على صعيد العلاقات السياسية الدولية سادت خلالها القوة الوحشية والجشع والحرب والأنانية. وجدير بالذكر أنه في فرنسا خلال عطلة نهاية الأسبوع، أخبر المسؤول السابق بالبيت الأبيض ستيفن بانون قوميين ينتمون إلى اليمين المتطرف أن «التاريخ يقف إلى صفنا» ولم يكن مخطئاً تماماً في قوله هذا.
وفي الوقت الذي كان يعمل بانون على تقويض ما ينتقده هو وأمثاله باعتباره «عولمة»، كانت مجموعة من المسؤولين والخبراء الأميركيين والأوروبيين تعقد اجتماعاً للتوصل إلى سبيل لإنقاذ هذا النظام. وأطلق منتدى بروكسل التابع لصندوق مارشال الألماني دعوة للعمل.
وفي كلمة ألقاها أمام المنتدى، قال الكاتب روبرت كاغان: «لقد زاغت أعيننا بعيداً عن الجهود الضخمة التي تطلبها بناء هذا النظام الدولي وكيف أنه شكل تحدياً مذهلاً لحركة التاريخ، بل وللطبيعة البشرية ذاتها. اليوم، نملك القدرة على المقاومة، كل ما نحتاج إليه تفهم أن هذه المقاومة يجب أن تبدأ».
فيما بينهم، يتشارك أنصار النظام الدولي في الاعتقاد بأن هذا النظام يواجه خطراً بالغاً يهدده وكذلك سبعة عقود من النمو والرخاء والسلام النسبي حققها هذا النظام. اليوم، ثمة صعود واضح في التوجهات القومية والشعبوية داخل الولايات المتحدة وأوروبا. كما أن النزعات الاستبدادية التي تتزعمها روسيا والصين في حالة تنام بمختلف أرجاء العالم.
الواضح أن الغرب افترض في أعقاب الحرب الباردة أن القبول العالمي للقيم الليبرالية مسألة مفروغ منها، لكن للأسف لم ينته التاريخ عند هذه النقطة، وإنما استأنفت عجلة التنافسات الجيوسياسية دورانها. وكان من شأن التداعيات السلبية للعولمة تأجيج السخط إزاء نموذج المجتمع الليبرالي المنفتح. وسارع الخصوم لاستغلال هذا الأمر. وبعد ذلك، جاءت الصدمتان المزدوجتان المتمثلتان في «البريكست» ونجاح دونالد ترمب.
ويرى البعض أن الديمقراطية الليبرالية لم تتناول احتياجات ورغبات الشعوب التي تعيش تحت مظلتها، بينما يقول آخرون إن النظام الدولي الليبرالي لم يكن ليبرالياً أو عالمياً أو منظماً بصورة كاملة قط، وإن مهمة الدفاع عنه يجب أن تتضمن الاعتراف بهذه العيوب والعمل على تناولها.
بيد أن المهمة الأولى تظل «الإبقاء على هذا النظام الدولي الليبرالي حياً»، مثلما قال السيناتور الديمقراطي كريس ميرفي أمام المنتدى. من ناحية أخرى، سيظل من المستحيل تحقيق قيادة أميركية نشطة ما دام استمرت إدارة الرئيس ترمب لأنها لا تدعم أهدافاً مثل نشر قيم ليبرالية في دول أخرى وتحرير التجارة وتعزيز المؤسسات الدولية.
وعليه، فإن المهمة الملقاة على عاتق أنصار النظام الدولي الليبرالي اليوم تكمن في «بناء تحالفات جديدة داخل مجتمعاتنا وبين مجتمعاتنا بعضها البعض»، حسبما قال ميرفي.
تجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن المشروع الذي طرحه بانون يدور حول توحيد صفوف القوميين في اليسار واليمين في مواجهة النظام الدولي. في المقابل، يعزز أنصار النظام الدولي من الديمقراطيين والجمهوريين جهودهم لمقاومة مثل تلك التحركات.
من جهته، أخبرني عضو مجلس النواب عن الحزب الجمهوري مايكل تيرنر أن الربط بين تلك المهمة والشعب الأميركي يحمل أهمية محورية. وقال: «الديمقراطيات تتولى القيادة من خلال ناخبيها الذين يقفون إلى جانبها ويدعمون أجندتها والتوجه الذي يتخذه الهيكل الغربي. وهذا تحديداً ما نفتقده منذ فترة».
يجب كذلك أن يقر التحالف عبر الأطلسي بإخفاق جهوده التي يبذلها منذ عقود من أجل التقرب إلى روسيا والصين لحثهما على الانضمام إلى النظام الدولي القائم على قواعد واضحة. ويتعين على الديمقراطيات أن تقف من جديد في مواجهة الجهود الاستبدادية الرامية لتقويض المؤسسات والقيم الغربية.
من ناحية أخرى، فإن نقطة البداية نحو تعزيز دعائم النظام الدولي الذي بناه المجتمع الأطلسي منذ نصف قرن، ينبغي أن تتمثل في إصلاح المؤسسات الدولية وتناول القضايا التي تثير سخط من خلفتهم حركة الازدهار الاقتصادي خلف ظهرها والدفاع عن استقلالية الإعلام الحر ونزاهته وحماية آليات الديمقراطية - مثل الانتخابات.
الحقيقة أن النظام الدولي الليبرالي بعيد كل البعد عن كونه مثالياً، لكنه يبقى أفضل من البديل، وهو نظام دولي تحكمه المصالح الذاتية الفجة وطغيان الأقوى.
- خدمة «واشنطن بوست»