فهد سليمان الشقيران
كاتب وباحث سعودي
TT

صخب المدينة وضجيج التقنية

بين فترة وأخرى أحرص على زيارة أستاذٍ قديم، تدخل مكتبته المتنوعة، الكثير من الكتب ترهلت ومزقتها الأيدي، فهو درس الجامعة متخصصاً في «المكتبات» ويعتبر عدم إعارة الكتاب هدراً واغتيالاً له. والعودة إلى هذا الفضاء البسيط يعيد الإنسان إلى البدايات والأحلام الساذجة وخطط التغيير المضحكة، لهدوء المدينة حيث ينتهي اليوم بالنسبة لذلك الجيل بعد صلاة العشاء، زيف قليل بلا صخب ولا ضجيج، ذلك ما تبقى من المدن الأصلية بتقاليدها الأثيرة.
نموذج نادر أن تُضرب عن كل هذا الطوفان من الكلام والمواعظ والنجومية «السوشلية» والتقافز على الضوء والصراع على الصورة، كل ذلك دمر وشوّه أصالة الإنسان بكينونته ووجوديته فلم يعد قادراً على تشييد شخصيته بل ترى الجموع تتماثل وتتشابه... جموع مطقّمة تعبر فعلياً عن تفاهة هذا العالم.
التقنية مثل معول يهشّم الذات، لقد اجتاحت كل شيء، دمرت الدهشة، واغتالت الشخصية، وسجنت العقل، وفضحت الجهل.
كان الفيلسوف الكبير هيدغر من المبادرين بالحديث عن التقنية في محاضرات شهيرة مدوية، خشي من التقنية على الوجود، واعتبرها «ميتافيزقيا العصر»، وراح يبحث عن أسرارها وأخطارها، وفي محاضرته «التقنية كسؤال» اعتبر «التساؤل هو تقوى الفكر»، ويرى أنه خلف كل عالم التقنية جوهر ليس بإمكان الإنسان لوحده التحكم فيه، بل سيكون الإنسان أسيراً لها ومنقاداً لصرعاتها وأدوائها، هنا يتحدث عن بدايات التقنية بدءاً من أربعينات القرن العشرين، تُختصر بمجرد تقنيات بصرية، وتطور للأسلحة الذرية، والنواة الأولية للأجهزة الحاسوبية. كانت التقنية في بدايتها كما اعتبرها هيدغر، إنه تنبؤ مبدئي لما ستحدثه هذه الأدوات من «آثار على الوجود» على النحو المعيش الآن، وهو طوفان مهول حتى ليشعر من هو خارجها بالغربة والوحشة والجهل، وكلنا وقعنا أسرى لهذا السجن التقني ولكن لماذا لا نهجو هذا السجّان بين الفترة والأخرى؟!.. هذا ما أفعله.
اخترت هيدغر بوصفه نموذجاً فصيحاً للنزق والإضراب عن حادثات التقنية وأطوارها، ولما تحمله شخصيته من غرق فعلي بالوجود وأسراره، ولهذا فإن حياته كلها كانت تعبيراً عن فلسفته، ويوظّف ما بيده ولما يمتد إليه بصره بغية صناعة مفاهيمه، هذا ما يسرده بسخاء تلميذه هانز جورج غادامير عن أستاذه في كتابيْه «طرق هيدغر» و«التلمذة الفلسفية» وهي أشبه بالتاريخ لحياة هيدغر وفلسفته ومفاهيمه ومعاركه.
حدث أن فوجئ غادامير من زي هيدغر؛ اختبر قبل محاضرة فلسفية سترة رياضته المفضلة «التزلج على الجليد» سأله غادامير: هل أنت ذاهب لإلقاء المحاضرة بهذا الزي؟ يقول: «فضحك هيدغر بسرور، فهو كان يعطي ذلك المساء محاضرة عن التزلج وهي محاضرة كانت بمثابة مدخل لفصل دراسي عن التزلج وكانت الطريقة التي استهل بها محاضرته هيدغرية بطريقة خالصة: (يستطيع المرء أن يتعلم التزلج فقط على المنحدرات ومن أجل المنحدرات) كانت هذه العبارة ضربة قاضية سددت لكمة قوية للتوقعات السائدة، ولكنها في الوقت ذاته قدمت مفتتحاً لتوقعاتٍ جديدة» لاحقاً ألف هيدغر كتابه: «دروب الغابة» واشتهر باستخدام توصيفاتٍ مثل: «المنحدر الوعر، الدروب المتعددة»؛ أوصاف استمدها من رياضة التزلج، ولكن ماذا فعل هيدغر لمواجهة كل هذا الضجيج؟!
نعود إلى النص المهم: «وحدها الغابة السوداء تلهمني» كتبه هيدغر، وترجمه حسونة المصباحي مرتيْن في كتابه «متاهات» (2005) وأعاد ترجمته في كتابه الأخير: «قريباً من هيدغر» (2018)، كتبه هيدغر في سبتمبر (أيلول) عام 1933 ببيته الريفي، ضمنه إدانة للمدينة وصخبها وانتصاراً للريف وعوالم الفلاحين، وفي كوخ على ارتفاع 1150 متراً أطلق قنبلته قائلاً: «في ليل الشتاء تنفجر عاصفة ثلجية حول البيت وتأخذ في تغطية ومواراة كل شيء، عندئذٍ يبدأ زمن الفلسفة. في المدن، يمكننا أن نحصل على الشهرة السريعة من خلال الصحف والمجلات، وهذا هو الطريق المؤكدة للسقوط بسرعة في هاوية النسيان. العمل الفلسفي، لا يتم بعيداً كما لو أنه فريد من نوعه إن مكانه يوجد وسط عمل الفلاحين عندما يجرّ المزارع الشاب المزلاج الثقيل، المحمّل بحطب أشجار الزان، على طول المنحدر الوعر والخطر باتجاه ضيعته فإن هذا العمل يكون من الصنف نفسه. أجلس مع الفلاحين على مقعدٍ أمام المدفأة أو حول طاولة، هناك في الركن، وفي أغلب الأحيان لا أتحدث معهم وهم لا يتحدثون أيضاً، فقط ندخن الغليون بصمت، ومن حين إلى حين تسقط منا كلمة لنقول مثلاً إن قطع الخشب في الغابة يقترب من نهايته، وإن السمور في الليلة الماضية داهم قنّ الدجاج وأتلف الكثير منه، وإنه من المحتمل أن تلد البقرة. في السنة الماضية».
موقف وجودي أصيل يتذكره هيدغر: «كنت قد قضيت أسابيع بأكملها لوحدي في البيت صعدتْ تلك العجوز البالغة من العمر 83 عاماً المنحدر الوعر من أجل مقابلتي، وقالت إنها تودّ التحقق من أنني ما زلت موجوداً ومن أن اللصوص لم يأتوا لسرقة بيتي في غفلة مني وقد أمضتْ ليلة موتها في نقاشٍ مع أفراد عائلتها وقبل نصف ساعة من رحيلها إلى العالم الآخر كلفتهم بإبلاغ تحياتها إلى (الأستاذ)، إن ذاكرة كهذه في رأيي أكثر قيمة من أي (روبرتاج) حتى ولو كان جيداً في أي صحيفة مشهورة في العالم حول فلسفتي المزعومة».
تلك تجارب لم تترك الاحتكاك بأصالة الوجود، نستعيدها لنخفف ولنتطهّر من دنس الصخب، وآثار الضجيج، وإلا فإن الانعتاق من هذه الجلبة مستحيلة، ولكن من حق الكائن أن يحتج بين فترة وأخرى ضد كل هذا الزيف، الزيف الفاقع والواضح. إنه هيدغر الناقد الأكبر لـ«الهُم they» و«الفضول» و«الثرثرة التافهة» و«الغوغائية» و«الابتذال»، عالم يحلف هيدغر أن لن ينقذه سوى الله.