سليمان جودة
رئيس تحرير صحيفة «الوفد» السابق. كاتب العمود اليومي «خط أحمر» في صحيفة «المصري اليوم» منذ صدورها في 2004. عضو هيئة التحكيم في «جائزة البحرين للصحافة». حاصل على خمس جوائز في الصحافة؛ من بينها: «جائزة مصطفى أمين». أصدر سبعة كتب؛ من بينها: «شيء لا نراه» عن فكرة الأمل في حياة الإنسان، و«غضب الشيخ» عن فكرة الخرافة في حياة الإنسان أيضاً.
TT

مكر الجغرافيا

نظرة عابرة منك إلى خريطة دول جنوب أوروبا، التي تنام في هدوء على شاطئ البحر المتوسط، سوف تشير لك بوضوح إلى موقع فرنسا بين هذه الدول، فإذا دققت النظر إلى موضع الجمهورية الفرنسية بين جيرانها على البحر نفسه، فسوف تكتشف أنها مع إسبانيا إلى الغرب منها، ثم مع إيطاليا إلى الشرق، ترسم أمام العين ما يشبه الهلال، الذي تتلألأ أنواره وتنعكس على ماء المتوسط، إذا أقبل الليل!
وإذا ما كانت الخريطة المفرودة أمامك للمنطقة، من الخرائط التي تمتلئ بتفاصيل كثيرة مما تعرفها جغرافيا الدول، فالمؤكد أن بصرك سيقع على نقطة من نوع ما، فوق هذه الخريطة، وبالتحديد في المساحة الممتدة من شرق فرنسا إلى غرب إيطاليا، وهناك، أي في هذه المساحة بين الدولتين، ستقرأ اسماً تمثله هذه النقطة.. ستقرأ اسماً ربما تصادفه للمرة الأولى.. إنه: كورسيكا!
أما كورسيكا فهي جزيرة فرنسية اشتهرت لدى الذين تستهويهم السياحة حول العالم، بأنها ذات شواطئ ساحرة، وأن لون الماء على شواطئها ليس كمثله لون!
والذين قرأوا شيئاً في سيرة حياة نابليون بونابرت، ذلك القائد الفرنسي الفذ، يعرفون أنه جاء إلى الدنيا على أرض هذه الجزيرة، وأنه مولود في عاصمتها، وأنها، كجزيرة، مذكورة في التاريخ به، كما أنه مذكور بها، وأنها إذا لم تكن قد أنجبت سواه، فإن هذا وحده قد يكفيها بين الجُزر.. ويزيد!
ولكن اسمها طفا مؤخراً في صدر الأخبار المنشورة، لأسباب لا علاقة لها بنابليون من قريب، ولا من بعيد، وإنما بزيارة كان قصر الإليزيه قد أعلن في الرابع من هذا الشهر، أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ينوي القيام بها إليها، بعد أن كان قد قال في أعقاب انتخابه رئيساً في مايو (أيار) الماضي، إن موقع كورسيكا يظل في القلب من جمهورية فرنسا!
وما كادت الأخبار المتداولة تحمل نبأ الزيارة، حتى كانت مظاهرات حاشدة قد انطلقت في الجزيرة، وحتى كان المتظاهرون يرفعون لافتات كبيرة عليها مطالب محددة، يريدونها من الرئيس. وكانت الأنباء المتناثرة عن زيارة ماكرون، فرصة سانحة عرف منها المتابعون للأخبار العالمية، أن كورسيكا تضم انفصاليين يرغبون في استقلالها عن البلد الأم، وأنها تضم أيضاً قوميين يفضلون البقاء جزءاً من فرنسا، وأن الفريق الأخير غالب على الفريق الأول، غير أن له مطالب يراها حين تتحقق كفيلة بإبطال الحجج الانفصالية!
والمطالب تبدأ من اعتراف الحكومة الفرنسية بخصوصية الجزيرة، وأن يكون ذلك مكتوباً في مادة من مواد الدستور، ثم تمر إلى أن يتمتع أبناؤها بنظام ضريبي واجتماعي خاص، وتنتهي المطالب بالإقرار بأن تكون اللغة التي يتحدثها أهل كورسيكا لغة خاصة رسمية.. وهناك مطالب أخرى بالطبع، غير أن هذه الثلاثة هي أهمها، وغير أنها كلها تتجنب الحديث عن الانفصال، تفادياً لما يمس الكبرياء الفرنسية، واقتراباً مما هو عملي، وممكن، وجائز، من الأمور، وابتعاداً في ذات الوقت عما هو على العكس!
وليس معروفاً إلى الآن، ما إذا كانت حكومة الرئيس ماكرون سوف تنظر في مطالب الكورسكيين، فضلاً عن أن تقبل بها، أو ببعضها، أم أنها ستغض البصر عنها كلها وتتجاهلها؟!.. ولكن الشيء الذي يشد انتباهك، وأنت تتابع هذا كله، أن القاسم المشترك الأعظم في كل المطالب هو ثلاث كلمات، وأن هذه الكلمات هي كالآتي: خاص.. خاصة.. ثم خصوصية!
والسؤال هو: منذ متى كانت للجزيرة خصوصيتها، وما الذي يدفعها إلى أن تطلب أن يكون لها وضع خاص، وأن تكون لغتها لغة خاصة، فلا يتحدث سكانها الفرنسية شأنها شأن كل الفرنسيين؟!
سوف تبحث فتكتشف أنها كانت في الأصل جزءاً من إيطاليا، وأن ذلك كان إلى النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وأنها في عام 1768 قد انضمت إلى فرنسا، وأن ذلك كان قبل مولد نابليون بعام واحد، وأن هذا هو ما يعطي الذين يعيشون على أرضها إحساساً بالخصوصية لا يفارقهم، فلا تكاد أخبار الجزيرة تتوارى حتى تعود لتطفو على السطح من جديد، ويكون السبب في كل مرة، هو رغبة أبنائها في أن يمارسوا مقتضيات خصوصية قد ينحسر الإحساس بها، ولكنه أبداً لا يغيب!
ورغم أن التاريخ لا يعرف «لو».. ولا يعترف بها.. فإنها في مواقف كثيرة كانت فارقة تماماً في جريان أحداثه، وإلا، فماذا لو بقيت كورسيكا في الجسد الإيطالي؟!.. وماذا لو نشأ نابليون مواطناً إيطالياً، ومات على ذلك؟!.. وماذا لو لم يكن في الوجود شيء اسمه معاهدة فرساي، التي نقلت الجزيرة من تبعية الإيطاليين إلى الفرنسيين؟!.. وهل كان مايكل هارت، مؤلف كتاب «الخالدون مائة وأعظمهم محمد» سيجد ضرورة، عندئذ، ليفسح مكاناً متقدماً في كتابه عن نابليون باعتباره واحداً من المائة العظام، الذين يتصدرهم جميعاً نبي الإسلام محمد عليه الصلاة والسلام؟!
لقد أفسح له مكاناً باعتباره القائد الفرنسي الذي حكم بلاده 14 عاماً، وغزا الكثير من بلاد أوروبا، وهزم الأكثر من جيوشها، وسحق من المُدن في طريقه، ما لا حصر لها، ونشر مبادئ الثورة الفرنسية في أنحاء القارة، واعتبر نفسه حارساً على تلك المبادئ، وعاش يخرج من معركة، ليدخل في غيرها، وينتصر في حروب كثيرة، وينهزم في أخرى قليلة، إلى أن مات منفياً في جزيرة سانت هيلانة الواقعة جنوب المحيط الأطلسي!
وقد أفسح له مكانة إلى جوار المكان، لأنه نابليون الذي مارس دوره في زمانه، وفي بلده، وليس من المؤكد أنه كان قادراً على ممارسة الدور نفسه، لو أنه عاش في زمان آخر، وفي بلد آخر!
والذين وصفوه بأنه أعظم قائد عسكري في التاريخ، لم ينتبهوا ربما إلى أن مكر الجغرافيا الذي نقل كورسيكا من إيطاليا إلى فرنسا، في لحظة نادرة، كان كأنه يفرش الطريق أمامه، وكان وكأنه يخطط مبكراً ليكون نابليون مولوداً في هذا المكان، عن قصد، وفي ذلك الزمان، عن عمد، ليؤدي دوراً عظيماً كان لا بد أن يؤديه!
إننا نعرف أن التاريخ يمكر، وأن مكره يوجه الأحداث في أحيان مرصودة إلى طريق لم يكن متوقعاً، ولا كان مرسوماً لها، ونعرف أنه يمكر بالرجال كما يمكر بالأشياء، ونعرف أنه يُحوّل اتجاه الريح في أحيان أخرى إلى عكس ما كانت تمضي إليه.. نعرف هذا عن التاريخ، وتؤكده شواهده في كل حالة، غير أن هذه الحالة مع نابليون، من الحالات النادرة التي تريد فيها الجغرافيا أن تنازع التاريخ.. المكر والخديعة!



عاجل الجمعية العامة توصي مجلس الأمن بإعادة نظر إيجابية في عضوية فلسطين بالأمم المتحدة