محمد رُضا
صحافي متخصص في السينما
TT

«وين راح عقلك؟»

كنت أستمع لصديقي مكرهاً. لقد سألته عن حاله لأني لم أره منذ نحو فترة طويلة، فراح يقصّ عليَّ ما حدث له خلال العقد الماضي كله. في مكان ما قرر أن يعود إلى الثمانينات وفعل ذلك بسهولة. قصّ عليَّ كيف اشتغل لحساب أحد المنتجين ولم يقبض أجره إلى اليوم.
تركته يقلّب أوراق الماضي وشردتُ... وهو انتبه بعد حين فسألني «وين راح عقلك؟».
أين يذهب العقل؟ هل يذهب فعلاً؟
العقل هو الهبة التي نعيش بها أو نحاول. ليست مادة يمكن لمسها، لكننا نحسبها موجودة داخل المخ... لا يمكن قفل المخ عليها، فهي حرة تذهب في كل اتجاه تريد.
هناك عدة وجهات تفكير تحكمنا حين نشرد. طبعاً شردتُ لأن السؤال الذي طرحته على الصديق فتح باب السد فانهال أكثر مما توخيت من رد. لكن في كل الأحوال، هناك فرصة للتفكير بعيداً عما نسمعه أو نراه. باختيارنا أو فجأة.
ويبدو لي، وهذه المساحة الأسبوعية نافذتي لكي أشرد بعيداً عن العمل والسينما، أن أكثر توجهات أفكارنا تذهب إلى إحدى ثلاث وجهات:
1. قد نفكر في أوضاعنا الخاصة الحالية. في المطلوب منا توفيره على كل صعيد. في المسؤوليات الملقاة على عاتقنا.
2. قد نفكر في حياتنا الماضية. ربما نسمع شيئاً ينقلنا مباشرة إلى أيام المدرسة أو ما بعدها أو يذكّرنا بأشخاص عرفناهم عن كثب عبر القراءة أو المشاهدة. ما نتذكره من تلك الحياة يبدو في الكثير من الأحيان أكثر إثارة مما نعيشه. وفي أحيان أخرى هي ذاكرة نهرب منها لكنها تتردد علينا فارضة نفسها.
3. وقد نفكر في المستقبل. ينقلنا العقل إلى طموحات غير محقَّقة، أو إلى أحلام في البال نعلم أنها لن تتحقق، أو إلى مجرد شيء نتذكر أن علينا أن ننجزه بعد ساعة أو يوم.
إذن هي مسألة ماضٍ ومستقبل وبينهما حاضر. وقد قرأتُ وتعلمتُ أن الماضي هو صالح فقط للاستفادة من دروسه، والمستقبل صالح فقط للتخطيط. لا الشعور بالذنب يفيد مما حدث في الماضي ولا الشعور بالقلق يفيد في ما قد يحدث أو لا يحدث في المستقبل. أما الحاضر فهو الوقت الذي نحن فيه الآن، وهذا ما يجب أن نحرص عليه لأنه من دقائق، والدقيقة تمضي ولا تعود.
هذا لا يمنع أن الواحد منا قد يستعجل مرور بعض دقائق حياته خصوصاً إذا ما كان في ورطة مثل ورطة ذلك المتكلم الذي اعتقد أن «مرحباً، كيف حالك؟» هي دعوة للرجوع إلى السنوات الغابرة. ولا أدري إذا ما كنت أنقذته من مشقة العودة إلى تاريخ ميلاده والتنقيب في حياته صغيراً، لكني بالتأكيد أنقذت نفسي حين اعترفت له بأنني شردت بعيداً ثم أتبعت ذلك بالقول: «قصدت أن أسألك كيف حالك اليوم في هذه اللحظة وليس كيف كان حالك سنة 1988».
الشرود في نهاية الأمر على نوعين: تضطر إليه لأن بالك ما زال في موضوع آخر لم يُحلّ، أو تتبرع له لأن هناك أشياء جميلة في الحياة وتريد أن تشعر بها وتنام على صفحاتها. أشياء مثل أوراق الشجر والطيور ونسيم الهواء وجداول الماء والابتسامة التي تطفو على وجهك في تلك اللحظات الرقيقة.