تشارلز لين
TT

أميركا... كابوس ديمقراطي بين السلطات

ما من شك في أن أمهر أجهزة الاستخبارات في التاريخ قد قدمت خدمات لأبشع الديكتاتوريات. فأجهزة الاستخبارات السوفياتية «كي جي بي» والألمانية الشرقية «ستاسي» والكوبية، جميعها، أقرت بأن الهدف من الخدمات التي قدمتها كانت تطويق شركاء أوروبيين، وأنها استمرت في تقديم تلك الخدمات حتى بعد سقوط الأنظمة التي تولت خدمتها.
لم يحدث ذلك في جميع تلك الأنظمة مصادفة. فدولة الحزب الواحد تتصف بوحدة الهدف الذي يرمي في المقام الأول إلى النأي بنفسها عن المساءلة الديمقراطية. ومن شأن ذلك أن تعطى الأجهزة الأمنية بتلك الدول هامش حرية فسيحاً لإنجاز مهامها من خلال الابتزاز، والتسلل، والاغتيال، أو أي وسيلة أخرى.
وعلى النقيض، في الدول الديمقراطية ذات التعددية السياسية، فإن مثل هذه الممارسات تسير ضد المزاج السياسي العام. ربما يحدث أن تلجأ بعض الحكومات لإجراءات مشابهة، لكن الهامش المسموح ضئيل ومؤقت.
تعتمد الحكومات بدرجة كبيرة على الإجماع السياسي الطوعي القوي القادر على مساندة المقايضات الأخلاقية الحتمية. فإسرائيل مثلاً ديمقراطية مشاكسة، ولذلك فجهاز الموساد فيها حرص على تأمين مقدرات ووجود الدولة اليهودية أياً كان السبيل. ويأخذنا الطرح هنا إلى الولايات المتحدة الأميركية، حيث أثار الهجوم الحاد الذي يشنه الرئيس ترمب والحزب الجمهوري على مكتب التحقيقات الفيدرالي (إف بي آي) التساؤلات عما إذا كان من الممكن الإبقاء على كفاءة وشرعية جهاز الاستخبارات، فيما دخل القادة المنتخبون المفترض إدارتهم لتلك الأجهزة في صراع حزبي مفاده أن «الفائز يحصد كل الغنائم».
لقد لعب اتفاق الحزبين دوراً مهماً، لكنه لا يحظى بالتقدير الواجب في تاريخ أجهزة الاستخبارات الأميركية.
فلم يكن للولايات المتحدة الأميركية جهاز استخبارات وطني في القرن التاسع عشر، فيما كانت للدول الأوروبية مثل فرنسا وروسيا وبروسيا أجهزة. ويرجع السبب في ذلك جزئياً إلى المعايير الدستورية للحكومات الصغيرة على هذا الجانب من المحيط الأطلسي، لكن العامل المثبط الآخر كان انعدام الثقة بين الفصائل السياسية الأميركية.
لكن بعدما فتحت المعارك الفئوية والحزبية الباب أمام مسؤوليات دولية جديدة وإلى بعض الوئام الداخلي، بات بمقدور الحزبين الجمهوري والديمقراطي تعريف مفهوم المصلحة القومية المشتركة، ومن ثم قبول استحداث وكالات سرية دائمة تضطلع بحمايتهم.
لكن حالة الإجماع تراجعت بعد الكشف عن خروقات جهاز «إف بي آي» ووكالة الاستخبارات الأميركية (سي آي إيه) خلال ستينات وسبعينات القرن الماضي. غير أن الإصلاحات التي قام بها الحزبان عملت على تعزيز رقابة الكونغرس التي تزامنت مع الرقابة القضائية المحدودة على أنشطة التجسس من قبل «محكمة مراقبة الاستخبارات الأجنبية»، مما ساعد في إنقاذ تلك الأجهزة من الانهيار.
والآن فإن ترمب يهاجم مفهوم الإجماع الحزبي، ويقدمه لا على أنه انعكاس للوحدة الوطنية، بل باعتباره عملية مقايضة فاسدة موروثة نتاج ما يعرف بـ«الدولة العميقة». ربما يكون ترمب ورئيس لجنة الاستخبارات بمجلس النواب، ديفيد نونس (عضو الحزب الجمهوري عن ولاية كاليفورنيا)، يفعلان ذلك بشكل انتهازي بتمثيل دور الرقابة على الكونغرس لخدمة مصالح سياسية قصيرة الأمد. فهما يبدوان كمن يضغط على عصب عميق في العقل الأميركي لإثارة الحنق على حكومة سرية تعود جذورها إلى المؤسسين الأوائل.
إنه العصب نفسه الذي ضغط عليه إدوارد سنودين وأنصاره في تيار اليسار، بما كشفوا عنه من أمور تخص «وكالة الأمن القومي»، وهو العصب نفسه الذي ضغط عليه الديمقراطيون بلجنة الاستخبارات بمجلس الشيوخ، عندما قدموا تقريراً يدين ممارسات التعذيب التي ارتكبتها «سي آي إيه» في ظل إدارة جورج بوش.
الأدهى هو أنه حتى المصابين بجنون الارتياب بات لهم أعداء حقيقيون. لنفترض مثلاً أن وزارة العدل في عهد الرئيس المنتمي للحزب الديمقراطي استخدمت بحثاً معارضاً ممولاً من قبل الحزب الديمقراطي، وأن هذا البحث لم يتحقق منه ولم يكشف عنه بدرجه كافية، وأن الغرض من ذلك هو الحصول على ضمان سري من «محكمة مراقبة الاستخبارات الأجنبية» للتجسس على مستشار بحملة سابقة للحزب الجمهوري. فهل سيكون ذلك مستحسناً؟
باختصار، فإن الإجماع الوطني بشأن الاستخبارات وغيرها من الأمور كانت جميعاً مثار جدل، ومرت بمشكلات كبيرة قبل مجيء ترمب إلى المشهد بزمن طويل. فلو كانت هناك مراكز قوى سياسية حقيقية في البلاد ما كان لترمب أن ينتخب رئيساً للبلاد.
ولو فكرنا بسجيتنا كما نفكر في أي أمور أخرى، سنقول إن الرئيس يستغل حالة عدم الاستقرار والارتباك لتحييد كل ما يهدد منصبه، وأوضح تلك التهديدات الظاهرة للعيان الآن هي التحقيقات التي يجريها روبرت ميلر. لكن حالة الاستقطاب المشترك لكافة الأجهزة الاستخباراتية ستكون جائزته الكبرى لاحقاً.
سيكون من غير المجدي الاعتماد على «إف بي آي» نفسها، التي أطلقت عليها صحيفة أميركية عنواناً غريباً يصفها بـ«عمود الخيمة» بالنسبة للمجتمع، ربما لاستفزاز ترمب، رغم أن الكثيرين الذين يعلمون أكثر مما أعلم يعتمدون على تلك الأجهزة.
لنتذكر عندما حذر فيل ماد، المسؤول الرفيع السابق في «سي آي إيه» و«إف بي آي»، خلال لقاء تلفزيوني من أن مكتب «إف بي آي» حانق على ترمب، وأن المكتب بات جاهزاً لكسب المعركة ضد الرئيس المنتخب، فإن هذا الطرح لا يفيد سوى خطاب «الدولة العميقة».
ولنتذكر عندما قال ماد خلال اللقاء نفسه، «هؤلاء الذين سيتصدون لتوجه ترمب غير الليبرالي بسلوك غير ليبرالي مماثل وببيروقراطية غير مقيدة سيفعلون خيراً إن تأملوا التبعات غير المسبوقة لانتصارهم». وفي مقال نشر عام 2017 حذر مايكل غلينون، أستاذ الدستور بجامعة «تفاتس» بقوله «نحن نعيش كابوساً ديمقراطياً: منافسات بين الحزبين بشأن الاستخبارات السرية وشبه السرية ووكالات إنفاذ القانون». وبحسب ما أشار غلينون، لن يكون من الحكمة الرهان ضد ترمب، فللرجل امتيازات يستطيع استخدامها وعقوبات يستطيع تفعيلها. ووسط هذا الكم من التخبط وغياب الإجماع، فهو يدرك بالضبط ماذا يريد.

- خدمة «واشنطن بوست»