د. أحمد عبد الملك
كاتب واكاديمي قطري
TT

إشكالية التخطيط البرامجي في القنوات الخليجية

ظلت إشكالية التخطيط البرامجي في القنوات الرسمية الخليجية ماثلة لأعوام طويلة، مع كل التطورات التي واكبتها تلك القنوات في الجانب التقني؛ وحتى بعد دخول العرب عصر الأقمار الصناعية مع إطلاق القمر الصناعي العربي (عربسات) عام 1985 إلى الفضاء، والتحول إلى البث الرقمي وذاك فائق التقنية (HD Tv) بل والبث المباشر.

ويمكن حصر مظاهر تلك الإشكالية في الآتي:

1 - تقليدية الأفكار.. نظرا للمبالغة في إضفاء «الكهنوت» السياسي على تلك القنوات، وهذا أثر بصورة مباشرة على شكل ونوعية البرامج التي تبثها أكثر تلك القنوات. وتصور كثيرون أن القناة الرسمية، ناطقة باسم الدولة، وعليها ألا تخرج عن السياق الرسمي – الذي يكون صارما في بعض الحالات – المرسوم لها. ونرى في هذه الجزئية غبنا للوسائل الإعلامية عموما وانحسارا لدورها، بحكم امتلاء الفضاء بالقنوات المتعددة، خصوصا تلك التي تتمتع بمساحات من الحرية وهوامش رحبة من الانفتاح، ما جعلها قادرة على جذب أكبر قدر من المشاهدين! كما تنبع (تقليدية الأفكار) من عدم تغير المعدين والمقدمين، وفي بعض الظروف، عدم وجود معدين محليين يبحثون في احتياجات المجتمع من البرامج، وبذلك يكثر «التغريب الإعلامي» في تلك القنوات.

2 - في ظل التخصص، وبروز القنوات الفئوية (سياسية، علمية، دينية، رياضية، سياحية، تعليمية، أطفال.. وغيرها) بهتت صورة القناة المنوعة الشاملة، وصار المشاهد انتقائيا؛ يشاهد ما يريده من قناة تلبي رغباته بتقنية جيدة ولقد تفاعل (Interaction)، ونقاشات جريئة ترتفع فوق الخطوط الحمراء التي تفرضها الرقابة في بعض المحطات الرسمية. كما أن الصرف على تلك القنوات المتخصصة سخي ومتوفر، ويتجاوز ميزانيات المحطات الرسمية، الأمر الذي جعل الإعلان يتجه نحو تلك المحطات، وهذا ما يساهم في تجديد الأفكار التلفزيونية وتنوعها. ولا أدل على ذلك من قيام المشاهدين بالاشتراك في بعض تلك القنوات المشفرة تاركين قنواتهم المجانية!

3 - ضعف الإعداد البرامجي والأداء العام (في بعض القنوات) – سواء في التقديم أو الديكور أو حتى اختيار الموضوعات – كون كل العاملين في تلك القنوات الرسمية موظفين لدى الدولة، ويتقاضون رواتبهم آخر الشهر، سواء أبدعوا أو أهملوا! وهذا يخالف واقع الحال في القنوات المتخصصة أو شبه الخاصة، كون الموظف في هذه القنوات يسعى لتطوير نفسه أو إثبات نفسه، وإلا فمن السهولة أن يتم الاستغناء عنه! ناهيك بأن هذه القنوات تجتذب مبدعين وتجزل لهم العطاء من أجل الفوز بالجديد والمثير، وهذا الشيء لا ينطبق على الحالة في الفضائيات الحكومية التي يحكم (العقاب والثواب) فيها قانون الخدمة المدنية؛ بمعنى لا يكون للإعلامي في تلك القنوات ميزات خاصة تتوفر في المحطات الخاصة أو شبه الرسمية!

4 - التعيينات السياسية والاجتماعية تؤثر تأثيرا كبيرا على سير الأمور في بعض القنوات الرسمية! فبعض من المديرين لا تكون لديهم خبرة إعلامية، بل إن بعضهم يأتي من مجال بعيد عن الإعلام، وقد يكون ناجحا في الإدارة مثلا، لكنه ليس بالضرورة يصلح لأن يتعامل مع لغة التلفزيون أو اللغة الفصحى، أو زاوية الكاميرا، أو حجم التردد، أو يناقش ميزانية إنتاج مسلسل تاريخي ضخم، أو يستطيع استيعاب الآثار النفسية على المتلقين، وبالتالي تطوير الأداء في قناته! لذلك نلاحظ - في بعض الحالات – ضعف مستوى المقدمين، وكثرة أخطائهم اللغوية، ناهيك بتواضع الأداء العام، والذي يضر بالشاشة. وبعض المقدمين نشاهدهم على الشاشة وهم «يافعون» لم يتدربوا على العمل التلفزيوني وليس لهم أي صلة باللغة العربية، وبذلك تلجأ القناة إلى اللهجة المحلية، والتي تحاربها الدول وتعتبرها إضرارا باللغة العربية. ناهيك عن ضعف بعضهم في التواصل اللفظي وغير اللفظي. ومن هنا نكرر القول، إن عدم تخصص القائمين على تلك القنوات يساهم في عدم تخصص وتطور بقية الموظفين.

5 - ندرة التدريب والتوجيه.. إذ نلاحظ أن كثيرين من المعدين والمقدمين يحتاجون إلى فترات تدريب كي يتأهلوا لهذه العملية التي لم تعد تقبل «الهواة» الساعين للشهرة بسرعة الصاروخ! كما أن عين المشاهد لا تخطئ تواضع المعد أو المقدم! كما نلاحظ الاستعجال في الزج ببعض المقدمين المتواضعين وقليلي الخبرة في العمل التلفزيوني دون تأهيل! كنا في السبعينات نجتمع كل صباح مع رئيس قسم المذيعين حيث يوجد متخصص لغوي يعرض علينا أخطاءنا في نشرة اليوم السابق، وكنا نتناقش ونأتي بشواهد نحوية حول الكلمة التي نختلف على إعرابها! بل كان مدير التلفزيون شخصيا يتابع النشرة، وحال انتهاء المذيع من القراءة يطلبه ويناوله ورقة بالأخطاء التي بدرت منه، ويتوعده بمنعه من قراءة النشرة الإخبارية إذا كرر نفس الأخطاء! وبتلك الطريقة قلّت، بل تلاشت الأخطاء من الشاشة، وظهر جيل من الشباب المؤهل يزيد على 10 أفراد! وكان المذيع الجديد يجلس لستة أشهر في الأستوديو يشاهد عملية القراءة وتقنيات الأستوديو ولغة الأداء، بل كانت هنالك خطط واضحة للتدريب خارج البلاد، مثل المراكز العربية والـ«بي بي سي» والمحطات الأميركية، وهذا حسب خبرتنا لا يتوفر الآن.

6 - إهمال الدراسات والبحوث الخاصة بنمط المشاهدة في الكثير من المحطات الرسمية، وهذا يؤكد تكرار الأفكار وتقليديتها وعدم تطور الأداء، وبالتالي يجعل المشاهدين ينفرون من تلك المحطات. ولا أدل على ذلك من أنك لو سألت أكثر من مشاهد: هل تشاهدون القناة الرسمية؟ لقال كثيرون لك: فقط نشاهدها وقت الأخبار! وهذه حقيقة، لأنني قمت بسؤال كثيرين من الأصدقاء – ولكن الأمر من الناحية العلمية يحتاج إلى استبيان ودلالات رقمية حقيقية - لأن أغلب القنوات الخاصة وشبه الخاصة (الفئوية) تقدم ما يريده المشاهد لا ما تريده القناة! إن نتائج الاستبيانات والتحليلات تمكن القناة من معرفة مواقع الوهن في أدائها، وتقوم بالتالي بإعادة التخطيط بناء على تلك النتائج. وهذا ما تقوم به القنوات العالمية التي تريد كسب أكبر عدد من الجمهور وبالتالي الفوز بأكبر حجم من الإعلان العالمي. كما أن تلك النتائج تساعد واضعي مخطط البرامج في تحديد أوقات البث ونوعية البرامج المناسبة لتلك الأوقات، ومعرفة ساعات الذروة، ناهيك عن استبعاد البرامج والمواد التي لا يحبذها الجمهور.

هنالك المزيد من مظاهر إشكالية التخطيط البرامجي في القنوات الخليجية، لكن مساحتنا هنا محدودة!