دانيال موس
TT

نهاية سياسة «الدولار القوي»

لم يأتِ الأمر بهذه السرعة. فعلى الرغم من الطريقة التي انتشرت بها فكرة «الدولار القوي» في الخطاب الرسمي على مدار العقدين الماضيين، فالحقيقة هي أن وزراء الخزانة من الحزبين الرئيسيين عملوا على الترويج لتلك الفكرة تارة وخفضها تارة أخرى حسب مقتضيات المرحلة. وفي مناسبات عديدة، كانت فكرة «الدولار القوي» تختفي تماماً، وكثيراً ما يعلن عن وفاتها، لكنها لم توارَ الثرى.
ربما يعاني المراقبون من الانحياز لما يعرفونه حالياً. فلأن إدارة الرئيس دونالد ترمب اتخذت العديد من القرارات غير الموفقة التي تضر بدور الولايات المتحدة البارز، فمن السهل رؤية ملاحظات وزير الخزانة ستيفن منوتشين على أنها تحول كبير للأسوأ.
أتمنى لو أن عندي صورة كبيرة للرئيس جورج واشنطن لكي أعرضها أمام كل من يتحدث عن سياسة نهاية «الدولار القوي». وأتذكر عندما كنت أجلس في غرفة أخبار وكالة أنباء «بلومبيرغ» في لندن، وسمعت أن السماء قد سقطت على الأرض عندما حاد كل من باول أونيل وجون سنو، أول وزيري مالية في حكومة جورج بوش الابن، عن السيناريو الذي رسمه روبرت روبن الذي شغل نفس المنصب في حكومة الرئيس بيل كلينتون والذي يعتبر الأطول ارتباطاً بالمنصب، وسرعان ما تأقلم الناس مع الوضع ولم تحدث نهاية العالم.
هنا أتذكر مكالمة مهمة تلقيتها من مراسل صحافي مرافق للسيد سنو خلال اجتماعاته مع «مجموعة السبعة الكبار» التي جرت بمدينة نورماندي عام 2003. فقد كان التحول حقيقياً، وكانت النتائج ضئيلة وأقل من أن نتذكرها. وحاول سنو التركيز على ما تعنيه كلمة «الدولار القوي»: هل تعني أنه صعب التزييف، أم تعني أنه يحتفظ بقيمته التي تعكس «العرض والطلب على مختلف العملات»؟ لم تكن فكرة سيئة، لكن الناس لم تكن تود سماعها، واختفت الفكرة وسط ضوضاء «تجاهل الدولار القوي». وربما أن السبب يرجع فقط إلى كراهية الناس للرئيس بوش.
ففي بداية الفترة الرئاسية الأولى للرئيس بوش، جرت التضحية بأونيل بعدما أقدم على الإدلاء بتصريح لصحيفة «أليمنين زايتونغ» عام 2001 قال فيه «على العكس مما يروج له الناس، فإننا لا نتبع سياسة الدولار القوي»، فالولايات المتحدة تفضل بدلاً من ذلك أن تتمتع باقتصاد قوي، فالمنطق يقول إن الاقتصاد القوي سينعكس على قوة الدولار. وجاء الضجيج عالياً وسريعاً عندما أنكرت المتحدثة الرسمية باسم أونيل ذلك أمام الصحافيين خلال حوار جرى على عجل بميناء ميلان. وأياً كانت الموضوعات الأخرى التي أراد أونيل الحديث عنها خلال قمة «السبعة الكبار»، فقد توارت أي موضوعات تماماً في خضم اعتراضه على أن سياسة «الدولار القوي» لم تتلاشَ. وأفاد بأنه كان سيقوم باستئجار فرقة موسيقية نحاسية في استاد «يانكي» للإعلان عن ذلك لو أنه قال إن الدولار القوي قد تلاشى.
وحتى روبن، وهو الرجل الذي غالباً ما صور على أنه سيد رسائل سوق العملة، فإنه لم يعارض بشأن إرسال رسائل تشير إلى قوة الدولار إن اقتضت الحاجة ذلك. على سبيل المثال، في بداية عام 1997، أشار روبن إلى أن الدولار قوي «منذ فترة لا بأس بها»، مما أدى بالتجار لأن يتوقعوا بأن فريق كلينتون لم يرد أن يرى الدولار القوي الذي يعشقه وقد بالغ في قوته.
كذلك لم يكن روبن وراء بيع الدولار أيضاً، وقد فعل ذلك عام 1998 لإنقاذ عملة الين. وقد بيع الدولار مرة أخرى عام 2000 في عهد وزير الخزانة السابق لاري سومرز لدعم اليورو عند بداية طرحه للتعامل. وتعويذة الدولار القوي كانت تحيطها الكثير من الأساطير التي لم تتخذ شكلاً عملياً، فكل قرار رسمي بشأن الدولار يحتاج إلى بعض السياق التاريخي. عندما عين روبن وزيراً للخزانة عام 1995 كانت عملة الين متفوقة على الدولار وعلى المارك الألماني آنذاك. فقد اتسم أول عامين من فترة الرئيس كلينتون، عندما كان ليود بنستين وزيراً للخزانة، بالصراعات التجارية مع اليابان.
وهناك نقطة مهمة يجب أن تثار، وهي أنه في حين كان ينظر للسنوات التالية من حكم كلينتون على أنها فترة انتعاش للتجارة الحرة وللأسواق الحرة، فقد شهد أول عامين ما يعرف بالحمائية في المقابل. ولذلك، فإنه رغم تغيير بعض الأشياء، فهناك أشياء أخرى تبدو كما هي. فما من ضمان بأن فترة حكم ترمب ستسير في نفس الاتجاه، وإن كانت الإدارات تميل لأن تصبح متعددة الأطراف كلما طال بها الأمد في الحكم.
في النهاية، فإن قدرة وزراء الخزانة والمالية بصفة عامة على إحداث هزة في العملات العالمية قد تبخرت بدرجة كبيرة مع مرور السنين. فـ«اتفاق بلازا» الذي وقع عام 1985 احتوى على بذور التطور في مرحلة اقتصاد ما بعد الحرب لأن التطورات التي بدأتها كانت عظيمة جداً ودامت لفترة طويلة، وربما أيضاً لأن جيمس بيكر، الذي كان وزيراً للخزانة، كان متحفظاً بدرجة كبيرة.
وأيضاً لأن خبراء الاقتصاد القليلين الذين حضروا مؤتمر بلازا – حيث كانت حينها تسمى مجموعة الخمسة – كانوا يمثلون الكثير من اقتصادات العالم. وعلينا أن نتذكر أنه في عام 1985 عندما كان الاتحاد السوفياتي ما زال موجوداً، لم تكن الصين قد بدأت الانطلاق بعد، ولم تكن الأسواق قد بدأت في التعبير عن نفسها.
ولذلك إن اعتقدت أن تعليقات منوتشين تشير إلى نهاية عصر أو إلى شيء جديد ومهم، ربما تكون على حق. ولذلك ربما تكون على حق أيضا إن اعتبرت التاريخ نبراساً ومرشداً لك أيضاً في ظل خليفته. فالدولار القوي سيواصل العطاء حتى وإن دخل القبر.
- بالاتفاق مع «بلومبيرغ»