د. عبد الله الردادي
يحمل الردادي شهادة الدكتوراه في الإدارة المالية من بريطانيا، كاتب أسبوعي في الصفحة الاقتصادية في صحيفة الشرق الأوسط منذ عام ٢٠١٧، عمل في القطاعين الحكومي والخاص، وحضر ضيفا في عدد من الندوات الثقافية والمقابلات التلفزيونية
TT

الاقتصاد الإبداعي

نشرت «بلومبيرغ» بداية الأسبوع المنصرم تقريرها السنوي عن ترتيب الدول من ناحية الاقتصاد الإبداعي لعام 2017 ميلادي، وتصدرت كوريا الجنوبية –كما هو متوقع– هذه الدول بفارق كبير عن باقي الدول، وجاءت السويد في المركز الثاني متقدمة على ألمانيا. وجاء في المراكز العشرة الأولى بعد هذه الدول سويسرا وفنلندا وسنغافورة واليابان والدنمارك والولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل، التي صعدت للمراكز العشرة الأولى للمرة الأولى في تاريخها، بينما كادت الولايات المتحدة تخرج من هذه القائمة. واعتمدت مؤشرات متعارف عليها في هذا التقييم مثل نسبة الإنفاق على البحث والتطوير إلى الناتج القومي، وكم يشارك القطاع الصناعي من نسبة الإنتاج القومي، إضافة إلى عدد الشركات التقنية المدرجة في سوق الأسهم، ويُقصد بالشركات التقنية هنا الشركات التي تستثمر في البحث والتطوير سواء كانت شركات أدوية أو شركات الإلكترونيات أو الطاقة المتجددة أو شركات الإنترنت أو غيرها من الشركات التي تتغذى على المعلومات الجديدة والأبحاث. كما اعتمد التقييم على عدد الخريجين من المؤسسات التعليمية سواء كانوا مهندسين أو حاصلين على شهادات عليا ممن ينضمون إلى مشاريع البحث والتطوير. إضافة إلى نسبة حمَلة الشهادات العليا من مجموع السكان. كما يجب التوضيح أن هذه القائمة تحمل اسم 50 دولة فقط، وتشترط الجهة المانحة لهذا التصنيف أن تكون الدولة مستمرة في نشر المعلومات الاقتصادية السنوات الست السابقة بشكل غير منقطع، وهو ما يبرر عدم وجود دول كثيرة في قائمة الخمسين.
لم يشكل تصدر كوريا الجنوبية للاقتصاد الإبداعي مفاجأة بأي حال، فهي تنفق ما يزيد على 4% من ناتجها القومي على البحث والتطوير، وقد وضّحت في مقال سابق كيفية تحول كوريا الجنوبية من دولة زراعية إلى دولة صناعية. ولكن الجديد في هذا التصنيف هو حصول السويد على المركز الثاني. وقد عزا الكثير من المحللين حصول السويد على هذا المركز، إلى إضافة الأبحاث إلى الناتج الصناعي في الدولة، وهو ما يشير إلى فعالية البحث والتطوير في السويد. كما تميزت السويد في تحفيز الأفكار الجديدة والشركات الناشئة بشكل مختلف عن باقي الدول، فقد ركزت على الأفكار الشخصية الجديدة أكثر من تركيزها على دعم الأفكار الجماعية، وقد برر أحد المسؤولين السويديين ذلك بأن الثقافة السويدية لا تقلل من القدرات الشخصية وتؤمن بمدى فاعليتها. وعلى المستوى التمويلي، فقد ركزت الحكومة السويدية على تشريع قوانين لدعم المؤسسات الصغيرة الناشئة حتى تستطيع المنافسة في سوق عمل مليئة بالشركات العالمية الضخمة. وعلى الجانب الآخر، تأثرت روسيا كثيراً من هبوط أسعار النفط الذي دعاها لتخفيف تمويل الأبحاث بشكل كبير، مما جعلها تهبط 14 مركزاً إلى المركز السادس والعشرين.
ويتضح من هذا التقييم أنه ليس للنجاح وصفة واحدة، فالحكومة السويدية الحالية فرضت سياسة ضريبية قاسية على رواد الأعمال، مما قد يسبب انخفاض التمويل للأبحاث، وهو ما لم يحدث، وبرر رئيس مركز أبحاث سويدي ذلك بأن السويديين أنفسهم يؤمنون بالقدرات الشخصية وبأن سياسة البحث والتطوير أقوى من التغييرات الحكومية الحالية. إلا أن سياسات بعض الدول أثرت بشكل كبير على تطور الاقتصاد الإبداعي، كما أثرت الحالة الاقتصادية على دول أخرى في تطور الأبحاث فيها. وكان عذر بعض المتابعين في الدول العربية انخفاض مستوى التعليم فيها، وهو عذر غير مقبول البتة، فالباحثون العرب كثر، والدول العربية من الدول المصدّرة لحمَلة الشهادات العليا والمهندسين لجميع أنحاء العالم. كما تعذر البعض الآخر بضعف المصادر التمويلية لهذه الأبحاث، وهذا العذر كذلك لا يصدقه عاقل، فالمصادر التمويلية متوفرة في العالم العربي أجمع، ولو لم تكن كذلك لما كانت الاستثمارات العربية موجودة في دول العالم الغربي بكثرة.
وهنا يتجلى للمتابع أن البحث والتطوير يعتمد على عوامل كثيرة قد يؤثر بعضها على بعض، فعلى الرغم من توفر الباحثين والتمويل في دول كثيرة، فإن المنظومة البحثية لا تُحفَّز بالشكل الكافي في هذه الدول، وذلك بسبب عدم الإيمان بقدرات هؤلاء الباحثين، أو بنتائج عملهم، والمؤسسات المالية التي قد ترفض تمويل باحثين من دولتها بسبب تشككها في البحث العلمي، قد لا تجد غضاضة في تمويل أبحاث وجامعات غربية. والعاملون في المجال البحثي يدركون جيداً النظرة العامة إلى المؤسسات البحثية على أنها مضيعة للمال والوقت، وأن ما ينفَق عليها هو هدر لموارد الدولة، وهي ذات النظرة العامة التي تنظر بإعجاب إلى تطور كوريا الجنوبية، فكيف وصلت كوريا إلى ما وصلت إليه لو لم يُدعم البحث العلمي فيها ولو لم يُحمَ من هذه النظرة المتشككة؟ إن للمسؤولية الحكومية في دعم وحماية البحث العلمي في الدول أهمية عظمى، وهو دور لو لم تقم به الحكومات فلن يقوم به طرف آخر، لأنه قرار أقرب ما يكون إلى القرار السيادي، التي ترى فيه الدولة مستقبلها الاقتصادي، في مستقبل يقوم على اقتصاد إبداعي علمي، تصدّر فيه الدولة علومها وإنتاج أبنائها كما تقوم بتصدير مواردها الطبيعية.