نوح فيلدمان
أستاذ القانون بجامعة هارفارد وكاتب بموقع «بلومبيرغ»
TT

أميركا والثقة بسيادة القانون

يثور سؤال مهم في الآونة الأخيرة على جانبي الطيف السياسي يتعلق بما إذا كان مسموحاً للمدعين العامين وعملاء المباحث الفيدرالية بالإدلاء بآرائهم السياسية.
ويبدو أن إجابة السؤال السابق معقدة للغاية. فمن الناحية التقليدية، كان السياق الأميركي الحديث يسمح ويتوقع من المدعين العوامين ومن رجال الشرطة أن تكون لديهم شخصيات مستقلة. ومن الناحية المهنية، من المفترض بهم ألا يكونوا منحازين، وغير متحزبين، وموضوعيين. وعلى المسار الشخصي، فإنهم مسموح لهم باعتقاد ما يشاءون، ويمارسون حقهم بموجب التعديل الأول لمناقشة الأمور السياسية مع أصدقائهم وجيرانهم، وأن يصوتوا في الانتخابات كذلك.
ويأتي هذا الحل الوسطي من جعبة المنطق الأميركي الواضح. ففي حين أن الدستور يُخضع جهات إنفاذ القانون بصورة متساوية تحت سيطرة السلطة التنفيذية في البلاد، فإن الولايات المتحدة قد اعترفت ومنذ فترة طويلة أن سيادة القانون سوف تتآكل بشكل سيئ إن تم اتخاذ القرارات بشأن التحقيقات والملاحقات القضائية على أساس التحيز. وبدلا من تعديل الدستور لإنشاء جهاز للشرطة ومدعين عوامين مستقلين تماماً، على نحو ما تفعله أكثر الدول الديمقراطية الليبرالية الأخرى، أبرمت الولايات المتحدة اتفاقاً غير مكتوب مع الأعراف القوية في المجتمع التي تطالب بنزع الصفة السياسية تماماً عن العدالة الجنائية.
وفي الأثناء ذاتها، فإن التقليد الأميركي من الحريات الدستورية الفردية كانت في خدمة حرية التعبير السياسي وحمايتها لدى جميع المواطنين، بما في ذلك الموظفون المدنيون. والمبدأ القضائي الذي يحيط بحرية موظفي الحكومة في التعبير عن آرائهم يجسد هذا المثل الأعلى تمام التجسيد: وهو أنهم يتمتعون بحرية التعبير ما لم يتحدثوا أو يتصرفوا وفق صفتهم الرسمية. وإلا، تعين عليهم التعبير والتصرف وفق ما تمليه عليهم متطلبات وظائفهم، التي قد تتضمن الامتناع التام عن الخطاب السياسي العام.
ومن المصادفات، من وجهة نظر قانونية جادة، لا ينبغي لرأي عميل المباحث الفيدرالية بيتر سترزوك في الرئيس ترمب أو في هيلاري كلينتون أن يكون مهماً خلال اتصالاته وأحاديثه الخاصة. فهو لم يكن يتحدث وفق صفته الرسمية، وهو يحظى بالحرية في التعبير عن أي رأي لديه على الإطلاق على المستوى الشخصي الخاص. والأكثر من ذلك، يملك الرئيس ترمب كل حق قانوني لديه في سؤاله المذكور للسيد ماكابي. إذ إن مدير المباحث الفيدرالية معين من قبل السيد الرئيس، وبالتالي فإنه يحق للرئيس تحديد ما إذا كانت آراء مدير المباحث الفيدرالية تتطابق مع آراء الرئيس.
تكمن المشكلة في نموذج الشخصية المنفصلة في أنه بصرف النظر تماما عن الجاذبية النظرية للأمر، فإنه رغم ذلك لا يبعث على الارتياح. ففي ظل النزعة التحزبية والاستقطاب الشديد في عالمنا المعاصر، من ذا الذي يعتقد حقا أن السياسات الخاصة لا تؤثر على الواجبات العامة؟ إننا نميل للتقارب مع الموظفين المدنيين - وربما مع الجميع تقريبا - بما يسمى في بعض الأحيان التفسير القائم على الشك: فإننا نشكك على نحو تلقائي في أن الحياد العام قد يتعمد إخفاء التفصيلات السياسية الخاصة.
وهناك إجابة متاحة لذلك، وتعتمدها بعض البلدان الديمقراطية الأخرى: عبر إصرارها على أن يتخلى الموظفون المدنيون عن سياساتهم الخاصة بالكلية. ويمكننا إيجاد عرف أو تقليد جديد يمتنع، وفقا له، كل من يضطلع بإجراء التحقيق العام أو الملاحقة القضائية الرسمية عن مناقشة الأمور السياسية في أي وقت من الأوقات ومع أي شخص من الأشخاص.
ومبرر ذلك سوف يكون ضمان نجاح عمل نظام العدالة في البلاد.
وعلى نحو مماثل، يمكننا القول إن تجسيد الآراء السياسية لدى المحققين تؤدي إلى إثارة شكوك الرأي العام حول استقامة ونزاهة التحقيقات بالأساس. ولكي يتحول الأمر إلى قاعدة رسمية، فسوف يتطلب تغييرا يحدث في المبادئ الدستورية. وإن بقيت كما هي من قبيل الأعراف والتقاليد غير المكتوبة، فلن تسفر عن انتهاك للدستور، بل سوف تصبح بدلا عن ذلك من الحقائق المفيدة في المجتمع، وتماثل الأعراف والتقاليد غير المكتوبة التي لا تسمح بتسييس المحققين أنفسهم.
وفي عالم مثالي، أو غير متحزب على أقل تقدير، لن يكون أي من ذلك ضروريا. وسيكون من اللطيف أن يتقبل الرأي العام الموظفين المدربين تدريبا جيدا الذين يفصلون ما بين حياتهم الشخصية والمهنية. غير أن هذا الواقع المثالي يبدو أنه بعيد المنال. ففي العالم الذي نحيا فيه، يبدو أننا نتحرك على مسار المطالبة بالحياد الشخصي الكامل لدى الموظفين المدنيين في بلادنا. إذا كان هذا ضروريا للمحافظة على الثقة بسيادة القانون، فإن التضحية تستحق خوض هذا الغمار.
- بالاتفاق مع «بلومبيرغ»