محمد النغيمش
كاتب كويتي
TT

هل الأول هو الأفضل؟

لا تكاد تخلو مدينة في العالم من حوار أو يافطة عنوانها «نحن أول من فعل كذا وكذا» فتثير مواجهات ليس لها نهاية.
أشهر هذه النزاعات بين الروسي، فلاديمير، الذي كان أول من تقدم بتسجيل براءة اختراع «قلب» التلفاز، غير أن الأميركي كان أول من عرض التلفاز بشكله الحالي أمام الجمهور، فحكم القاضي لصالح أولوية الأميركي. والأهم من ذلك أن ابتكار البث الملون كان على أيدي يابانيين، ثم توالت ملحقاته اليابانية مثل أول نظام فيديو منزلي (بورتاباك) عام 1965، ثم «بيتاماكس» عام 1976 وهو أول مسجل لأنظمة الفيديو. وصارت جودة التلفزيونات والفيديوهات اليابانية تتفوق على الأميركية. حتى كابل البث التلفزيوني نفسه الذي خرج من رحم الأراضي الأميركية، قبل عقود، لم يعد محتفظاً برونقه، فلا تكاد تدخل فندقاً في العالم إلا وتشاهد إبداعات هائلة من البرامج المحلية تضاهي الكابل الأميركي.
أول من اخترع الهاتف المحمول كان الأميركي مارتن لورانس، من أصول أوكرانية، حيث أذهل الإعلاميين حينما استخدمه في مؤتمر صحافي. غير أن الفنلنديين سرعان ما بزغ نجمهم في صناعة الهواتف إبان حقبة «هواتف نوكيا» المهمة، وصارت حتى الصين تصنع حالياً هواتف خاصة ذات جودة عالية، بل أصبحت مصنع هواتف العالم بعد تصميمها في الغرب.
الهندي أيضاً هو أول من اخترع البريد الإلكتروني، والإنجليزي أهدانا الإنترنت، والاسكوتلندي الأصل وطد روابطنا الاجتماعية بالهاتف الثابت، ولولا الطائرة الأميركية، وهي امتداد لمحاولات عباس بن فرناس، وقوانين الفيزياء، لما حلقنا في آفاق الأرض لنرى، قبل عصر الإنترنت، كيف تفوق الأفضل على الأول.
التفريق بين الأول في شيء والأفضل أمر في غاية الأهمية. من هنا جاءت فكرة معايير الجودة والإتقان. أذكر أن خبيراً في الأدلة الجنائية أخبرني ذات يوم بأن بلدا كان الرائد في المنطقة بتقدمه الملحوظ على أقرانه. فلما تحمسوا وقرروا استضافة منظمة عالمية لمنحهم شهادة الجودة، صُدِموا لأنه ما إن وطأت قدما ممثل المنظمة مبنى الأدلة المتهالك حتى قال باستغراب: هل هذا مبناكم الذي تحفظون فيه الأدلة الجنائية الحساسة؟! فقالوا: نعم، فألغى الزيارة وعاد، لأنهم غير مؤهلين لأبجديات شهادة الجودة.
وهذا ينطبق على كثير من الشركات مثل كوداك التي استندت إلى إرثها التاريخي في تحميض الأفلام، ثم سرعان ما سحبت تكنولوجيا العالم البساط من تحتها بالاستغناء عن التحميض.
جميل أن تبني إدارة أو شركة سمعتها أو استراتيجيتها على ريادتها في مجال ما، لأن ذلك قد يعطيها «مصداقية وقتية» تنتهي صلاحيتها بخيبة أمل من صدّق تلك الشعارات الجوفاء التي لا تمت للواقع بصلة. ولذا يبقى محك التنافس في كل مضمار الإتقان والجودة والتطوير، ولذا جاء في الحديث الشريف: «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه».

[email protected]