د. كريم عبديان بني سعيد
ناشط حقوقي ومهتم بقضايا إيران
TT

الشعوب المضطهدة في إيران... عبر ودروس

إن محاولة الشعب الكاتالوني في إسبانيا استخدام حق تقرير المصير، وقبل ذلك حكومة إقليم كردستان، تعيد مرة أخرى المخاوف وشروط تحقيق حق تقرير المصير في الأمم المتحدة والمجتمع الدولي من جانب، وحماس الشعوب المضطهدة من جانب آخر.
وهذه مسألة صعبة مربكة جداً في القانون الدولي، تُسمى أحياناً «الغموض المتعمَّد»؛ فما الحل إذا لم يكن هناك وضوح من الأمم المتحدة والمجتمع الدولي بشأن هذه المسألة؟
إذا ما ألقينا نظرة عابرة على مواقف ومواثيق الأمم المتحدة، كالعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لعام 1966، وقرار الجمعية العامة لعام 1970، ووثيقة هلسنكي الختامية لعام 1975، وميثاق منظمة الأمن والتعاون في أوروبا الذي تم اعتماده في باريس لعام 1994، كلها تشير إلى حق جميع الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها، ولكن إذا ما أمعنّا النظر في تفاصيل تعريف هذا الحق، فسنلاحظ أن هناك عدةَ تعاريف وتفسيرات مختلفة ومتناقضة له.
فقد تطرق تقرير خبراء الأمم المتحدة خلال مؤتمر برشلونة الذي عقدته الأمم المتحدة عام 1998، والذي انعقد تحت شعار «مفهوم حق تقرير المصير للحد من الصراعات»، إلى مفهومين مختلفين، هما حق تقرير المصير الداخلي، وحق تقرير المصير الخارجي.
فالداخلي يتيح للشعوب والقوميات الواقعة تحت الاضطهاد القومي حق تقرير المصير في إطار الدولة الواحدة، والمشاركة في صنع القرار على مستوى الدولة الممثلة لمكوناتها، وحق تلك القوميات في ممارسة حقوقهم في المجالات الثقافية واللغوية والدينية، ومنها «تحقيق الديمقراطية تحت إطار الحكم الذاتي السياسي داخل حدود الدولة القائمة» أو «المشاركة الديمقراطية» أو «الفيدرالية» أو «الكونفدرالية» أو «الحكومة المحلية» أو «الحكم الذاتي» بشرط ألا يتعارض مفهوم حق تقرير المصير مع سيادة الدولة وسلامة حدودها الإقليمية.
أما حق تقرير المصير الخارجي، فهو يعني الحق الكامل لأي شعب من الشعوب في الانفصال والحق في إقامة دولة مستقلة جديدة.
حاولت كل من كاتالونيا وحكومة إقليم كردستان اتباع تلك القواعد - ولكن دعونا نرَ ما حدث من خطأ؟
أحد المعايير لتطبيق حق تقرير المصير في الاستقلال هو قدرة الشعب على إدارة نفسه بنفسه، وهذا ما حدث في كوسوفو، حيث لم تُمنَح الاستقلال إلا بعد قدرتها على الإدارة.
أما في كاتالونيا وإقليم كردستان فطلب المجتمع الدولي منهما العمل مع الحكومتين المركزيتين والاستناد إلى المحاكم الدستورية... لكن ربما يكون السؤال: ماذا لو كانت الشعوب التي تطالب بتقرير المصير أقلية والعرق الحاكم ضدهم في الأكثرية؟
إن استفتاء 25 سبتمبر (أيلول) الماضي في كردستان، الذي صوّت من خلاله الشعب الكردي في العراق لصالح الانفصال، هو تعبير عن ذروة مرحلتين رئيسيّتين مر بهما الشعب الكردي في كردستان العراق وهما:
المرحلة الأولى التي استمرت من عام 1992 إلى 2003، أسسوا فيها مجتمعاً مدنياً وكياناً قومياً ومدارس... وتأسيس سلطات تشريعية وتنفيذية وقضاء تحت مظلة القانون الدولي.
أما المرحلة الثّانية، فقد استمرت من 2003 حتى عام 2017، فشاركوا في إيجاد دولة اتحادية فيدرالية بعيداً عن الشعارات التي كانت من الممكن أن تعيق أهدافهم القومية، وانتهت بالاستفتاء الأخير الذي رغم المشكلات الحالية سينتهي عاجلاً أم آجلاً بتطبيق نظام فيدرالي حقيقي أو كونفدرالية.
أما في إيران، فالوضع مختلف، وبما أن من أصل 6 شعوب، فإن واحداً منهم مهيمن، بينما الآخرون مضطهدون، ويطالبون بحق تقرير المصير... إذن كيف سيؤثر ما حدث في كردستان وكاتالونيا؟ وما الدروس التي يُمكن الاستفادة منها في إيران؟
إيران مكونة من عدة قوميات، هي الأتراك والعرب والبلوش والتركمان والأكراد، حيث تعاني من الاضطهاد القومي؛ فالدرس الأول الذي لا بد لهذه الشعوب الاستفادة منه هو تجربة الشعب الكردي في العراق وكاتالونيا، بسلبياتها وإيجابياتها.
القوميات المضطهدة في إيران تنقسم في الوقت الراهن إلى تيارين؛ التيار الأول يسعى إلى إيجاد تحالف وائتلاف واسع مع القوى التقدمية الفارسية المؤمنة بحقوق القوميات، بهدف إسقاط النظام ومحاولة تعايش بعضها مع البعض تحت مظلة نظام فيدرالي لا مركزي.
أما التيار الآخر، فيرفع من الآن شعار الانفصال عن إيران، لذلك على هذا التيار أن يستفيد ويتعلم من التجربة الكردية العراقية والشعب الكاتالوني.
لقد دفعت ممارسات النظام الإيراني الوحشية ضد أبناء الشعوب غير الفارسية، التيار الداعي للاستقلال، إلى انتهاج سياسة راديكالية، مما ترك في نهاية المطاف أثراً سلبياً على مجمل نشاط القوى الداعية إلى حق تقرر المصير، كما أن نشاطها هذا ساعد النظام، كونه قسّم المعارضة إلى تيارين، وسبّب التصدع في المعارضة المتحدة ضد طهران.
إن التيار الانفصالي استخدم في خطابه الإعلامي مفردات ضد الشعب المهيمن في إيران مثل «الفرس المجوس» وغيرها، وهو ما أضرَّ بالتقارب بين الشعوب المضطهدة والمعارضة الفارسية، حيث دفعها لأن تكون مقرَّبَة من النظام.
خلافاً لذلك، فإن الأكراد في العراق، كان لديهم تحليل واقعي للأوضاع ساعدهم في تحقيق مشروعهم، لكن التيار الانفصالي في إيران ليست لديه رؤية استراتيجية، وخريطة طريق توضح كيفية الوصول إلى الاستقلال. هناك من يراهن على الدعم الخارجي لإطاحة نظام الملالي ثم الفوضى وعدم الاستقرار، حيث يرون أنها ستساعد في إعلان الاستقلال.. هذا المنهج هو نتيجة تفكير شعبوي وعدم الإلمام بالقرارات الدولية. إن البلدان الغربية، خصوصاً فيما يخص منطقة الشرق الأوسط، لا تزال متمسكة باتفاقية «سايكس - بيكو»، إذ يبدو أنها غير مستعدة على الأقل في الوقت الراهن لإجراء تعديلات على حدود الدول، وترى نفسها ملزمة بالحفاظ على الإصرار على الاستقرار والأمن في المنطقة، خصوصاً أن هناك ما يزيد على 70 حركة انفصالية في العالم، حسب دراسة في جامعة كمبريدج البريطانية.
بناء على ما ورد فإن على الشعوب المهمشة التي تعاني من الاضطهاد القومي في إيران استلهام العبر والدروس من تجارب الشعب الكردي في العراق والكاتالوني في إسبانيا، وذلك من أجل إيجاد حل شامل لمشكلاتهم عبر إيجاد نظام فيدرالي ديمقراطي متعدد القوميات يتضمن صيغة لتقاسم السلطة بين الحكومة المركزية (الاتحادية) والأطراف القومية بغية الاعتراف بالتنوع، والاستقلالية الإقليمية التي تختلف في اللغة والثقافة والجغرافيا، والتاريخ، وترفض الاضطهاد القومي ومنع نشوب حروب أهلية والصراعات الدموية.
من المهم طرح حق تقرير المصير للشعوب المضطهدة في حدود إيران، من أجل إسقاط نظام الملالي، خصوصاً أن هناك دولاً إقليمية ودولية باتت تعتبر النظام الحالي في طهران خطراً على أمنها ومستقبلها.