ماهر نقولا فرزلي
TT

الجغرافيا السياسية الجديدة: الثيران والدببة ومساعي الهيمنة العالمية

مع اقتراب رحيل عام 2017 عن عالمنا، باتت التوترات العسكرية المتصاعدة في شبه الجزيرة الكورية، وأزمة المهاجرين المتزايدة في أوروبا وأفريقيا، والمغامرات العسكرية الإيرانية عبر الخليج العربي والبحر الأحمر، تهدد العقد الاجتماعي لما بعد الحرب العالمية الثانية، الذي تركه الرئيس هاري ترومان، والجنرال مارشال، والجنرال أيزنهاور: وهم أبناء الغرب الأوسط الأميركي من أنصار الواقعية السياسية ودعاة الإمبريالية الذين تركوا لنا صندوق النقد الدولي، وخطة مارشال، ومنظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، والاتحاد الأوروبي (المؤسس على نحو سابق في عام 1948 عبر مؤتمر لاهاي)، والمؤسسات الخاضعة للولايات المتحدة التي تدعم الاستقرار السياسي والازدهار الاقتصادي على الصعيد العالمي لأكثر من 70 عاماً.
لكن، بعد سقوط جدار برلين، حلّ الآيديولوجيون العقائديون الذين يفتقرون إلى الملامح الأساسية للحس السليم، محل البراغماتيين الأميركيين على نحو تدريجي. وتآمر صناع السياسات من المحافظين الجدد مع الصقور الليبراليين من شاكلة جورج دبليو بوش، وتوني بلير، وهيلاري كلينتون على «تحويل» النظام الدولي بكل ما يملكون من قوة: عبر غزو وزعزعة استقرار منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من بغداد وحتى بنغازي وما وراءها (2003 - 2011)، واستفزاز الاتحاد الروسي الواهن، ومن دون جدوى، من أبخازيا (2008) حتى شبه جزيرة القرم (2014)، والبعث بإشارات عن النوايا التوسعية، بصورة أكثر إثارة للقلق، في منطقة آسيا والمحيط الهادئ: بعد تسليم العراق، واليمن، ووسط آسيا على صحن من فضة إلى النظام الإيراني، قرر المحافظون الجدد أن «مستقبل السياسات العالمية سوف يتحدد في آسيا، وليس في أفغانستان أو العراق، وأن الولايات المتحدة سوف تكون في قلب الأحداث» (ورقة كلينتون السياسية بعنوان: محور آسيا، لعام 2011).
ولقد عمدت بكين إلى تفسير هذا الموقف الأرعن على نحو صحيح باعتباره تهديداً صريحاً لمصالحها القومية.. ولأجل تطويق الصين، شرعت إدارة الرئيس أوباما (2012 - 2015) بصورة خرقاء في «إبرام تحالفات دفاعية وتجارية جديدة مع الأصدقاء القدامى والشركاء الجدد في مختلف أصقاع آسيا»؛ الأمر الذي أثار حفيظة اللجنة الدائمة للمكتب السياسي المركزي، أي القيادة المدنية والعسكرية الصينية المتسمة بالحذر الكبير - تلك التي عرضت على البيت الأبيض في عام 1972 حيوان الباندا العملاق، باعتباره رمزاً للقوة الواعية والإقدام غير المتعجل (وبالمثل، رد الرئيس نيكسون بإرسال زوجٍ من الثيران الأميركية الكبيرة المشعرة)!
لم يكن بوسع القيادة الصينية التزام حالة الخمول في الوقت الذي يعمل فيه الأعداء على صياغة وتنفيذ استراتيجية التطويق الممنهجة، وكانت الطعنة الصينية الخاطفة تتمثل في التمويل الدولي، مع إنشاء مؤسسة جديدة تتجاوز الحدود الوطنية وتتخذ من بكين مقراً لها، وهي المصرف الآسيوي لاستثمارات البنية التحتية (2015)، والصناديق السيادية الشقيقة الرامية إلى إنشاء شبكة البنية التحتية الهائلة تحت مبادرة «حزام واحد وطريق واحدة» التي تربط مدينة وميناء فلاديفوستوك بأقصى الشرق الروسي مع العاصمة النمساوية فيينا عبر المسارات الجوية والبرية والبحرية، مع تحويل اقتصادات آسيا وأوروبا الوسطى وشرق أفريقيا ضمن العملية نفسها.
وكان جيران الصين الآسيويون (باستثناء اليابان) متحمسين بصورة واضحة إزاء المبادرة الصينية؛ إذ سوف تحتاج آسيا بمفردها إلى ما يقرب من 900 مليار دولار في استثمارات البنية التحتية الجديدة على نحو سنوي خلال الأعوام العشر المقبلة... وفي 20 أكتوبر (تشرين الأول) من عام 2016، أعلن الرئيس الفلبيني رودريغو دوتيرتي «انفصاله» عن المدار الأميركي، وأكد «إعادة التحامه» مع «الأشقاء الصينيين». كما عثرت الصين أيضاً على حلفاء جدد في كل من أوتاوا، وكانبيرا، وسيدني، وسنغافورة، ولندن.
في 15 ديسمبر (كانون الأول) من عام 2015، أعلن فيليب هاموند، وزير الخزانة البريطاني، عن إقامة الصندوق الإنجليزي - الصيني للاستثمار في البنية التحتية بقيمة مبدئية تبلغ مليار دولار تحت رئاسة ديفيد كاميرون رئيس الوزراء البريطاني السابق - وفي أيامهما الخوالي، كان كلا الرجلين من أبرز أنصار مبدأ بوش المناهض للصين! وأيضاً، وعلى الجانب الآخر من المحيط الأطلسي، أعلن رئيس الوزراء الكندي الجديد (خلال زيارته للعاصمة الصينية بكين في سبتمبر/أيلول من عام 2016) عن النوايا الكندية بالانضمام إلى المصرف الآسيوي لاستثمارات البنية التحتية تحت قيادة الصين، وبالتالي أصبحت كندا أولى دول أميركا الشمالية الأعضاء في المؤسسة الآسيوية؛ مما اعتبر من القرارات السياسية الجريئة التي تتسق مع تطلعات البلاد للاستثمارات الخارجية في مجال البنية التحتية - وهي فئة استثمارات الأصول التي صارت صناديق التقاعد الكندية من أكبر المستثمرين الماليين فيها على الصعيد العالمي.
ولقد عاد الزعيم الكندي إلى زيارة جديدة لبكين في ديسمبر (كانون الأول) من العام الحالي (2017). وبعيداً عن ملفات مستقبل التجارة الحرة، والتغييرات المناخية، والتعاون الدبلوماسي، وأعراف قوانين العمل الدولية، ناقش رئيس الوزراء الكندي مع القيادة الصينية الإعداد لقمة مجموعة السبع الكبار المقبلة (وهي المجموعة التي تأسست على أيدي الولايات المتحدة، والتي ليست الصين من أعضائها) كي تستضيفها كندا في ريتشيليو مانور بمقاطعة شارلفوا الكندية (في يونيو/حزيران لعام 2018)، الأمر الذي يعتبر من الإشارات الواضحة الأخرى على الصعود الصيني داخل نصف الكرة الغربي ذاته.
جدير بالذكر، أن مكان انعقاد قمة مجموعة السبع الكبار المقبلة يحمل اسم الكاردينال ريتشيليو، وهو رجل الدولة الأوروبي اللامع وعالِم السياسة البارز والذي قال ذات مرة: «إن الرجال الذين يصوغون الاستراتيجيات طويلة الأمد لا يتصرفون بطريقة رعناء متهورة؛ إذ إنهم يخططون لسياساتهم في أوقات جد مبكرة». وهي الحكمة الدبلوماسية التي كان يجدر بثيران المحافظين الجدد أخذها في الاعتبار، والتأمل في فحواها قبل اندفاعهم الأعمى صوب «تغيير الأنظمة الحاكمة» على ضفاف نهر الفرات والبحر الأسود.
ومن الواضح، أن سجلهم السياسي للفترة بين 2001 - 2016 يتسم بالفشل الذريع والإخفاق الفادح؛ إذ تركوا الولايات المتحدة أكثر فقراً، وأضعف استراتيجياً، وأكثر عزلة على الصعيد الدبلوماسي: ومن نواحٍ كثيرة، كانت الولايات المتحدة نفسها أولى ضحايا سياسات جورج دبليو بوش وهيلاري كلينتون الحمقاء، ناهيكم عن أفاعي المحافظين الجدد المحصنين الذين أحاطوا بهم في خضم مستنقعات واشنطن الآسنة. ولقد أسفرت هذه الحقيقة المريرة المدركة عن انتخاب دونالد جيه. ترمب، اللامنتمي، الذي تعهد بتجفيف مستنقعات السياسة في العاصمة، والقضاء على بناء الأمة الأميركية فيما وراء البحار، وتشييد أعظم مشروعات البنية التحتية في العالم... هنا داخل الولايات المتحدة!