يوم الأحد المقبل، يحيي المسيحيون ميلاد المسيح عيسى بن مريم، عليه وأمه الطهور البتول، وعلى آل عمران، سلام الله وصلواته. نهار الخميس الأخير من الشهر المنصرم (30 - 11) وافقَ ثاني عشر ربيع أول العام الهجري، فابتهج مسلمون ومسلمات في أنحاء الكوكب، باستحضار ذكرى مولد نبي الإسلام، محمد بن عبد الله، خاتم الأنبياء، صلى الله عليه وسلّم، وعلى أهل بيته الكرام وأصحابه أجمعين. ميلاد النبيين؛ عيسى ومحمد، كان هبة خير من الخالق، جلّ وتعالى، للناس كافة والبشر أجمعين. كلاهما أتى بمنهاج مكمل للآخر. كلُّ منهما بشّر المحسنين والمحسنات بأن ربّ السموات السبع، ليس بمُضيّعٍ عمل العاملين الخيرَ والعاملات، بل لهم ولهن الأجر الحسن، ينتظرهم من لدن خالق كريم، ينفد ما عند عباده كلّهم، لكن ما عنده باق.
أليس من العدل أن يُسائل المؤمنون بربِّ الرسل والأنبياء أجمعين، أنفسَهم قبل أن يسألهم مَن خلقهم، أنْ ماذا فعلتم بما أُنزِل إليكم من السماء لأجل خلاصكم مما أريدَ، ولم يزل يُراد، لكم من قِبل شر الخلق وقبيله؟ بلى، حقيق بذوي الحكمة، وكل ذي عقل، بين أولئك الموقنين بصدق المُرسلين، المبادرة إلى حساب النفس، وتمحيص الذات، بشأن المسؤولية، عما أوصلت إليه شرور التلاعب بالنص المقدّس، من مآسٍ تُنسب، بفاسد التأويل، لرحمن رحيم، ليس ممكناً، بأي صورة كانت، تصوّر أنه، سبحانه، يُسّر بآلام البشر، أو يسعد لشقائهم. وإذا كان الحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، هو لمالك يوم الدين وحده، فأنّى لأي بشر، إذنْ، حق إصدار أحكام التكفير إرضاءً لهوى سياسي، أو تسويقاً لمُعتقد حزبي؟
ما بين ميلاد المسيح عيسى في بيت لحم بفلسطين، وبين هجرة النبي محمد من مكة المكرمة إلى المدينة المنوّرة لبدء تأسيس دولة الإسلام، مسافة 578 سنة، هي ذاتها التي تفصل بين عام ميلادي (2017) دخل أواخره، وآخر هجري (1439) لم يزل في مطلع ربيعه الثاني. هل يجب أن يحول فارق العمر بين تواصل الديانتين؟ كلا، بل إن تفاهم المسيحية والإسلام خيرٌ لأهل الأرض قاطبة، ونقيض ذلك أن الصدام بينهما شر توظفه شياطين إفساد أمن البشر وأمانهم، بغرض ترويع الناس أجمعين. هل ثمة ما يمنع اللقاء؟ كلا، بل إن الواقع اليومي المعيش في كل مجتمع متعدد الأعراق والعقائد، شهد تعايش الجيران كأنهم أسرة واحدة، لا يشعرون بوجود فروق بينهم. فرح المسلم يسر المسيحي. وقرح المسيحي يحزن المسلم. كان إلياس، جاري في الزقاق، يرافقني إلى الجامع العُمري بغزة، كي نراجع الدروس سوياً، وكنتُ أرافق الجار نفسه إلى الكنيسة للغرض ذاته. ذات يوم من شهر رمضان، دخلت غرفة بالمدرسة كنا نكدّس فيها لافتات وأعلام المسيرات، فإذ المدرِس سامي، معلم الحساب، يقفز بفزع، وهو المسيحي، إذ كان يتناول شطيرة طعام الغداء في الخفاء، لأنه خجِلٌ كونه غير صائم. ربما قليلون، خارج مجتمعات المشرق العربي، يعلمون حقيقة حرص كثيرين من نصارى العرب على صوم رمضان. تلك إحدى تجليات الانسجام بين أتباع الديانتين. ولئن كان ذلك المثل من ماضي الزمان، هنا مثال أقرب. قبل سنتين شب حريق بمسجد «كينغستون أون تيمز»، حيث أسكن، ومن فورهم سارع القائمون على الكنيسة المجاورة إلى تخصيص قاعة لجيرانهم، فأدى المسلمون صلواتهم الخمس فيها، مطمئنين، طوال أيام إعادة إعمار مسجدهم.
ذلك هو الوضع الطبيعي. أما الذي حصل، مذ أخرِج «جِنُّ» الزعم بأن المسلم مُطالبٌ بألا يقبل الآخر، أو يعترف به، أو يتعامل ويتعايش معه، فهو تموضع دخيل، ليس على الدين وحده، بل كذلك على جوهر معنى الوجود نفسه؛ إذ ما الذي يمكن أن ينشأ عن تقوقع مجموعة أفراد داخل شرنقة يمنعون أعينهم عن مد البصر خارجها؟ انكماشٌ يمهد لاندثار. وهذا، ربما على وجه التحديد، ما يريد الخوارج الجدد. ليست «القاعدة»، وما نتج عنها من «داعش» وأشكاله، سوى فقاعات طارئة، رغم كل ما ارتُكب من التوحش. الأخطر، أن يستمر خطأ الفهم القائل إن تصادم الديانات الإبراهيمية الثلاث حتمي. كلا، التلاقي بينها والتكامل هو الطبيعي، هو الضروري، وهو الأسلم.
TT
تفاهم... لا تصادم
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة