مارك دوبويتز وتوبي ديرشويتز
TT

الإرهاب الإيراني في الأرجنتين ولحظة العدالة

صباح أحد أيام الأسبوع الماضي، أفاق الأرجنتينيون على زلزال سياسي: وجه أحد القضاة اتهاماً إلى الرئيسة السابقة كريستينا فرنانديز دي كيرشنر بـ«خيانة الوطن»، التي تصل عقوبتها إلى السجن 25 عاماً. أما الجريمة محل الاتهام فهي التواطؤ بالتعتيم على دور إيران في واحدة من أكثر الهجمات الإرهابية دموية على مستوى قارتي أميركا الشمالية والجنوبية قبل 11 سبتمبر (أيلول) 2001.
في 18 يوليو (تموز) 1994، قاد إبراهيم حسين بيرو، عميل يتبع «حزب الله» المدعومة من إيران، شاحنة مليئة بـ606 أطنان من نترات الأمونيوم ووقود النفط إلى داخل مبنى الجمعية التعاضدية اليهودية الأرجنتينية، المعروفة باسم «آميا»، ما أسفر عن مقتل 85 شخصاً وإصابة أكثر عن 300 آخرين. ويبقى هذا الهجوم الإرهابي الأكثر دموية في تاريخ الأرجنتين.
منذ عام 2004 حتى 2015، سعى صديقنا المدعي ألبرتو نيسمان بدأب نحو كشف الحقيقة وراء هذه الجريمة الشنعاء. وقد خلص من التحقيق الذي أجراه إلى أن إيران تولت التخطيط لهذا الهجوم. ويصر نيسمان على أن كيرشنر تقف خلف عملية تعتيم هدفت إلى التغطية على الدور الإيراني. أما بالنسبة للدافع وراء تصرف كيرشنر، فتمثل في أن البلاد كانت تعاني آنذاك مشكلات اقتصادية. وبالتالي فإن الفوائد الاقتصادية المرتبة على إقرار علاقات وثيقة على نحو أكبر مع طهران ربما أغرتها. كما ارتبطت حكومتها بروابط شعبوية بإيران وتكتل الدول البوليفارية بقيادة فنزويلا. وبغض النظر عن السبب، لم توجه اتهامات رسمية إلى كيرشنر عن هذه الجريمة، حتى الآن.
وعندما أصدر القاضي الفيدرالي كلاوديو بوناديو، قرار الاتهام في 491 صفحة ضد كيرشنر ووزير خارجيتها هيكتور تيمرمان، ورئيس الاستخبارات في عهدها وكبير مستشاريها القانونيين، واثنين من النشطاء المؤيدين لإيران و10 آخرين، لم يحاول استخدام ألفاظ تخفف من حدة الموقف، وإنما وصف الهجوم ضد المركز اليهودي بأنه «عمل حرب» من جانب إيران، متهماً كيرشنر بالتعتيم على دور قيادات إيرانية رفيعة ووكلائهم داخل «حزب الله» مقابل إبرام اتفاق تجاري.
وكنا نأمل لو أن ألبرتو نيسمان لا يزال على قيد الحياة ليشهد بناظريه العدالة تتحقق على الأرض.
جدير بالذكر أنه منذ ثلاث سنوات كان من المقرر أن يدلي نيسمان بشهادته أمام البرلمان الأرجنتيني حول دور كيرشنر في التعتيم على تورط إيران في الهجوم. إلا أنه في اليوم السابق لإدلائه بشهادته، تحديداً 18 يناير (كانون الثاني) 2015، عثر عليه مقتولاً داخل شقته في بيونس آيريس جراء إصابته بطلق ناري في الرأس. ووقع ذلك رغم تعيين فريق حراسة مؤلف من عشرة أفراد لحمايته.
في غضون ساعات، أعلنت كيرشنر أن نيسمان انتحر. وفي غضون أيام، أعلنت ادعاءً غريباً بأن الانتحار كان بسبب خلاف بينه وبين حبيبته. وأخيراً، غيرت قصتها من جديد وقالت إن الوفاة ربما تكون قد وقعت على أيدي عملاء استخباراتيين مارقين.
من ناحيتنا، عندما نما إلى مسامعنا نبأ مقتل نيسمان واحتمالات تورط كيرشنر في التعتيم على الدور الإيراني، انتابنا شعور بالفزع، لكن ليس الصدمة، وذلك لأن كل من تابع أسلوب عمل نيسمان في هذه القضية كان مدركاً، لأنه يواجه مخاطر كبرى عبر دخوله في مواجهة مع دولة إرهابية، وكذلك حكومة بلاده.
وعلى امتداد عقد، تلقى نيسمان تهديدات بالقتل ليس ضده فحسب، وإنما ضد أبنائه أيضاً. إلا أن هذا لم يفلح في ردعه، ومضى نيسمان بدأب ومثابرة حتى خلص وفريق العمل المعاون له إلى أن مسؤولين إيرانيين سابقين ومن «حزب الله» دبروا هجوم «آميا». ونجح في إثبات أن من بين المتآمرين الرئيس الإيراني السابق علي أكبر هاشمي رفسنجاني، ورئيس الاستخبارات، ووزير الخارجية، ورئيس الحرس الثوري الإسلامي، ورئيس قوة «القدس»، والملحق الثقافي الإيراني لدى الأرجنتين، والسكرتير الثالث في السفارة الإيرانية في بيونس آيريس، وكذلك القائد السابق لشؤون الأمن الداخلي في «حزب الله». وأدى التحقيق الذي ترأسه نيسمان إلى صدور أوامر بإلقاء قبض من «الإنتربول» على ستة من المتهمين. كما أصدرت الأرجنتين أوامر إلقاء قبض ضد رفسنجاني وعلي أكبر ولاياتي، وزير الخارجية آنذاك، الأمر الذي تجاهلته إيران كما هو متوقع.
إلا أن نيسمان لم يتوقف عند هذا الحد.
في مايو (أيار) 2013، أصدر لائحة اتهام في 500 صفحة تشرح كيف اخترقت إيران ليس الأرجنتين فحسب، وإنما كذلك البرازيل والأوروغواي وتشيلي وغيانا وباراغواي وترينيداد وتوباغو وسورينام، وكيف استغلت المساجد ومنظمات الخدمة الاجتماعية وسفاراتها في نشر الفكر الراديكالي وتجنيد إرهابيين.
أيضاً، تشارك نيسمان في معلومات ساعدت السلطات الأميركية على تحديد أن محسن رباني، الملحق الثقافي بالسفارة الإيرانية وأحد العقول المدبرة لهجوم «آميا»، عاون أربعة رجال، بينهم مسؤول من غيانا يدعى عبد القدير، على التخطيط لنسف خطوط الوقود داخل مطار كنيدي الدولي في نيويورك. ويقضي عبد القدير حالياً عقوبة السجن مدى الحياة داخل الولايات المتحدة عن دوره في هذا المخطط الذي تم إحباطه، والذي كان يمكن أن يسفر عن مقتل أعداد لا تحصى من الأرواح.
في ظل الأنظمة الديمقراطية الطبيعية، يشكل التحقيق في مقتل مسؤول بحجم ألبرتو نيسمان أولوية أولى. إلا أن كيرشنر وحلفاءها عمدوا إلى العمل على ضمان عرقلة جهود العدالة المتعلقة بمقتل نيسمان لسنوات.
إلا أن هذا الوضع تبدل منذ ثلاثة أشهر، عندما جرى فتح تحقيق آخر في عهد الرئيس الأرجنتيني الجديد ماوريسيو ماكري، من قبل الشرطة الوطنية الأرجنتينية، وخلص إلى أن نيسمان تعرض للتخدير بمادة «كيتامين» التي تستخدم في تخدير الحيوانات، ثم تعرض لضرب مبرح قبل أن يتلقى طلقاً نارياً بالرأس.
وتعتمد القضية القائمة ضد كيرشنر على أكثر عن 40 ألف محادثة جرى التنصت عليها بصورة قانونية وأدلة أخرى، جرى تجميع الكثير منها من قبل نيسمان نفسه، التي تكشف وجود قناة خلفية سرية بين حكومة كيرشنر وإيران. وبناءً على أوامر شخصية منها، استغلت هي ومعاونوها هذه القناة الخلفية في التفاوض حول مذكرة تفاهم علنية تنص على إنشاء البلدين «لجنة تقص حقائق» للعمل على تحديد هوية المتورطين في التفجير. من ناحيته، رأى نيسمان أن تلك اللجنة كانت مصممة في حقيقة الأمر على التخلص من أوامر إلقاء القبض الصادرة بحق المتورطين في التفجير.
إلا أن ثمة أمراً واضحاً تماماً... لقد قطعت كيرشنر وحلفاؤها شوطاً طويلاً في بناء هذه القناة الخلفية. على سبيل المثال، عام 2011 أجرى تيمرمان، وزير خارجية كيرشنر، زيارة سرية إلى سوريا لرسم ملامح الخطة مع علي أكبر صالحي، وزير الخارجية الإيراني آنذاك. وقد كشف النقاب عن هذه الخطة في وقت سابق من العام من جانب سفير أرجنتيني سابق لدى سوريا في شهادة أدلى بها أمام المحكمة.
ومن بين الأدلة الأخرى التي تدين كيرشنر وتيمرمان تسجيل صوتي له، يقر فيه بمسؤولية إيران عن التفجير. كما أدلى رامون آلان بوغادو، الذي يدعي أنه عمل لبعض الوقت عميلا للاستخبارات الأرجنتينية وأحد من شملهم قرار الاتهام الأخير، بشهادته الشهر الماضي حول أن القناة الخلفية تضمنت ترتيبات تقدم الأرجنتين بمقتضاها لإيران تكنولوجيا نووية، مع الاعتماد على شركات واجهة داخل الأرجنتين وأوروغواي لإجراء مثل هذه الصفقات.
وزعم أن مسؤولين على أعلى المستويات داخل الحكومة الأرجنتينية كانوا على علم بهذه الخطة. وإذا كان هذا الادعاء صادقاً، فإنه سيكون أسوأ مما كشفه نيسمان من معلومات ويسلط مزيداً من الضوء حول أسباب قتله. وقد توجه القاضي المسؤول عن القضية بطلب إلى الكونغرس الأرجنتيني الذي انضمت إليه كيرشنر منذ فترة قريبة بصفتها سيناتورة، بطلب لتجريدها من حصانتها، بحيث يجري إلقاء القبض عليها ومحاكمتها. بيد أنه بغض النظر عما سيحدث لها، تبقى الحقيقة أن الأرجنتين اليوم على الطريق نحو تصحيح ظلم فادح ظل قائماً لأكثر عن عقدين. من جانبه، أبدى الرئيس ماكري تأييده لإجراء تحقيق مستقل يخلص في النهاية إلى من أصدر أوامر قتل ألبرتو نيسمان.
إلا أن الطريق أمام الرئيس الأرجنتيني لا يخلو من تحديات، خصوصاً أن نيسمان سبق وأن أعلن أن إيران و«حزب الله» اخترقا أميركا اللاتينية، ولا يزالان يشكلان خطراً كبيراً لأمن الأرجنتين والمنطقة والولايات المتحدة.
* خدمة «نيويورك تايمز»