خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

صفحات من أيام الحرب الباردة

ترك لنا معترك السوفيات والناتو كثيرا من الطرائف والعجائب التي صاحبت ذلك العهد. وكانت من دون شك أكثر طرافة في السنوات الأولى من تأسيس الاتحاد السوفياتي. لم تعترف الدول الغربية بالنظام الجديد لعدة سنوات. وعندما اعترفت أحاطوا المبعوثين السوفيات بحصار ونطاق ضيق وقلما أشركوهم في شيء. عاملوهم كما لو كان كل واحد منهم إرهابياً يحمل قنابل في جيوبه. عانى كثيرا من هذه المعاملة القائم بالأعمال السوفياتي في لندن السيد مايسكي خلال الثلاثينات. كان يعيش كالسجين في بيته. لا أحد يزوره أو يدعوه لأي مناسبة.
بيد أن السماء انفتحت فجأة أمامه، عندما تسلم دعوة من وزارة الخارجية البريطانية لحضور الاحتفال السنوي بميلاد شكسبير في ستراتفورد، مسقط رأسه. هذه مناسبة يعتز بها الإنجليز كثيرا ويحضرها كثير من رجالات الدولة، ويدعى إليها ممثلو سائر البعثات الدبلوماسية. ومع ذلك فقد عمدت وزارة الخارجية واللجنة المختصة بهذا الاحتفال إلى تجاهل المندوب السوفياتي وعدم دعوته إليها. ولكن في عام 1926 أخفق الموظف المسؤول عن ذلك فشمل سهوا السيد مايسكي بالدعوة. وبالطبع أسرع الرجل إلى إعلام الخارجية ولجنة الاحتفال بقبوله للدعوة وشكره العميم لهم. وأسقط بيد المؤسسة البريطانية فلم يعرفوا كيف يصححون الورطة ويبعدونه عن الحضور. كانوا يخشون بصورة خاصة وقوع اضطرابات في المدينة، وقيام بعض الناس بالهجوم على ممثل الدولة الشيوعية التي أبادت القيصر وعائلته.
استدعت الخارجية مايسكي وأحاطته بمشكلات الموضوع، والتمست منه سحب قبوله للدعوة. أجاب بأنه لن يفعل ذلك. لكن لهم أن يسحبوا دعوتهم. ويؤدي هذا بالطبع إلى وقوع حادثة دبلوماسية. لم يعد بيدهم غير أن يضموا اسمه ضمن قائمة المدعوين. وعندها عقد أهل المدينة العزم على تحديه ومهاجمته. سمع بذلك عمال المناجم فتوجهوا بجموع غفيرة لحماية ممثل أول دولة اشتراكية. ازدادت الأمور تعقدا وحراجة.
من تقاليد الاحتفال أن يلقي الممثلون الدبلوماسيون كلمة عن شكسبير. ولكن عريف الحفل تجاهل مايسكي ولم يدعه للميكروفون. فبعث إليه بورقة يطلب فيها حق الكلام. لم يستطع عريف الحفل غير أن يسمح له بذلك. فانطلق بخطبة ماركسية أصيلة أشاد فيها بالشاعر ودوره في التعبير عن معاناة العمال والفلاحين وتطلعه للثورة البروليتارية، وإقامة المجتمع الشيوعي في كل ربوع العالم! بلع الإنجليز على مضض كل هذا الكلام، ولكن شاغل البلدية كان في الوصول بمايسكي للمحطة، من دون أن يحدث تصادم بين عمال الفحم والمحافظين. لم يجدوا مخلصا بغير دعوته للتفرج على المدينة والريف البريطاني، انتهاء به إلى محطة قطار صغيرة بعيدة عن مركز المدينة ليأخذ القطار إلى لندن.
وفي اليوم التالي حملت الصحف البريطانية تقارير تقول إن المبعوث السوفياتي كان يحمل معه قنبلة في حقيبته طوال السَّفرة! ولم تنكشف حقيقتها إلا بعد آونة طويلة، عندما اتضح أنه كان في الواقع يساعد زوجته بحمل حقيبتها المثقلة بأحمر شفايف ولوازم المكياج، طبعا المكياج البرجوازي. ولا شك أن مايسكي شاء أن يعطي القوم درساً في مساواة المرأة والرجل!