نبيل عمرو
كاتب وسياسي فلسطيني
TT

المصالحة الفلسطينية والعودة إلى المربعات الأولى

كما كان متوقعاً، انخفض منسوب التفاؤل بنجاح المصالحة واستعادة وحدة الوطن.
ومنذ اليوم الأول الذي زفّت فيه البشرى من القاهرة، بدا جلياً أن العاطفة والرغبة أقوى بكثير من الحلول العملية للقضايا التي تشكّل مادة الانقسام.
الانفعال الشعبي في غزة الذي ترجم نفسه باستقبال حميم للسلطة القادمة من رام الله، كان له ما يبرره؛ ذلك أن المواطن الذي ضربه الانقسام في صميم حياته، وأجبره على شرب الماء المالح، كان يرى الأمل القادم من وراء «إيريز» مضخم بحكم الحاجة، وبدا المواطنون الغزيون كما لو أنهم يحتفلون بمصالحة تمت، وبفعلها يودعون كل مظاهر البؤس والشقاء التي ألمت بهم على مدى عشر سنوات، تحملوا فيها ما لا طاقة لأي إنسان على وجه الأرض في تحمله.
أمّا على صعيد ما وراء الحاجزين، فقد احتفل العالم بعد أن صدّق البيانات التي تليت من القاهرة أن الانقسام الفلسطيني قد انتهى، وأن التعامل مع جهة شرعية واحدة قد استؤنف بعد تعطل دام عقداً من الزمان، وهذا يسهل الأمور على من يرغبون في التعامل مع الملف الفلسطيني، بما في ذلك الولايات المتحدة الأميركية.
التفاؤل مرض إيجابي ينتقل بالعدوى، ولو راجعنا ما حدث في الأيام الأولى لإعلان النجاح في القاهرة، لوجدنا أن العالم كله تفاءل، ولوجدنا كذلك أن معظم دوائر صنع القرار في العالم تعاملت مع الإنجاز كما لو أنه مقدمة لتسوية سياسية عنوانها الأبرز صفقة القرن، وحين دعونا الناس إلى التريث في اعتبار ما تم على أنه إنجاز نهائي، بدا الأمر لكثيرين أنه تشاؤم لا مبرر له، بل إنه نقطة سوداء على قماشة ناصعة البياض.
في تقويمي الأولي للحدث لمست جديداً في المعالجة قامت به مصر، وهو دخولها إلى المعادلة بأعلى المستويات، وأقوى الأوراق المؤثرة، غير أن هذا الدخول القوي لن يكون حاسماً إلا إذا قابلته إرادة فلسطينية مشتركة ترتفع من خلالها كل الأطراف فوق الاعتبارات القديمة التي أدامت الانقسام لمصلحة الاعتبارات الجديدة التي تفرض الوحدة، وأهم هذه الاعتبارات صفقة القرن، التي ستضع القضية الفلسطينية على مائدة التسوية أو التصفية... وأمر كهذا لا يستقيم معه النزاع الداخلي على أي أمر دون ذلك، فالحكاية في أصلها ليست صلاحيات الوزير الفتحاوي ووكيله الحمساوي، ولا حتى استرداد الأراضي الحكومية التي صرفت كمرتبات، ولا من يضع ختم الدخول على الجانب الفلسطيني من معبر رفح، ولا من يستقبل أو يودع الداخلين والخارجين من نزازة «إيريز»، فمثل هذه الأمور التي يجري السجال عليها تحت عنوان التمكين، تظل ثانوية حين تبدأ صفقة القرن بالعمل، ويُسأل محمود عباس عن صلاحياته وصدقية تمثيله لكل الفلسطينيين حين تدور العجلة السياسية وتقام موائد المفاوضات.
لن يكون منطقياً ولن تقبل الأعذار التي تساق لتفسير وحدة إدارية ناقصة كبديل عن وحدة سياسية متكاملة، فليست إسرائيل من يفوت فرصة استغلال الانقسام لمواصلة تحايلها على أي بند تكمن فيه بعض مصلحة للفلسطينيين، ولا أبالغ لو قلت إنه لو بقي الوضع الفلسطيني على حاله، وانهمكنا في الحوار حول الانقسام بدل إنهائه، أن يكون ذلك هو الباب الفلسطيني العريض لتهرّب الأصدقاء والأعداء على السواء.
لقد انشغلنا كثيراً في حكايات التمكين الأقرب إلى حكايات ألف ليلة وليلة، وابتعدنا كثيراً عن الجذر الذي تنبت عليه ومنه كل آفات الانقسام، لهذا تعثرنا في الماضي، وها نحن نتعثر في الحاضر، ولا أرى لو بقي المنهج هو المنهج ما ينهي الانقسام في الغد القريب أو المتوسط إن لم أقل البعيد.
إن ما يجري الآن من سجالات بين من تعانقوا بالأمس ويتلاومون اليوم، ينذر بعودة الأمور إلى المربعات الأولى، وهذا أخطر ما في الأمر، خصوصاً أن حروب الإقليم تشرف على الانتهاء، ما يقوي احتمالات فتح الملفات جميعاً بما فيها الملف الفلسطيني.