مشعل السديري
صحافي وكاتب سعودي ساخر، بدأ الكتابة في الصحف السعودية المحلية، ثم في صحيفة «الشرق الأوسط» اللندنية، تتميز كتاباته بالسخرية اللاذعة، ويكتب عموداً ثابتاً في «الشرق الأوسط».
TT

قاتل الله «أم الخبائث»

من الحوادث التاريخية التي لا نعرف صدقها من كذبها: أن أحد الخلفاء ذهب للصيد، وشرد به حصانه وابتعد، وضاع عن رفاقه، وضربه التعب والجوع، وإذا به يشاهد خباء أعرابي، فأتاه وقال: هل عندك قرى؟ فإني ضيفك، فأجابه: أراك ذا هيئة حسنة، فإن احتملت الموجود عندي قريتك. قال: هات ما عندك. فأخرج له الأعرابي خبز ملّة، فأكله وقال: إنها طيبة، هات ما عندك. فأخرج له لبناً وسقاه وشرب. فقال: إنه طيب، هات ما عندك. فأخرج له فضلة نبيذ في ركوة، وسقاه وشرب معه، فانتعش الخليفة وسأله: أتدري من أنا؟! فقال: لا والله. فقال: أنا من خدم الخاصة، فأجابه: بارك الله في موضعك وحياك، ثم صبّ قدحاً وسقاه، فلما شرب قال: يا أعرابي، أتدري من أنا؟! فأجابه: نعم، لقد ذكرتَ أنك من خدم الخاصة. فقال: لستُ كذلك، أنا أحد قواد الخليفة. فرد عليه: رحبت دارك وطاب مزارك.
وبعدها شرب الأعرابي قدحاً وسقاه معه، فلما شرب الثالث سأله: أتدري يا أعرابي من أنا؟! فأجابه: نعم، لقد زعمتَ أنك أحد القواد. فقال: لستُ كذلك، فأنا الخليفة نفسه.
فما كان من الأعرابي عندما سمع ذلك إلا أن أخذ ركوته وأبعدها، ورفض طلبه بأن يسقيه قدحاً آخر، قائلاً له: لا والله لن تشرب منها جرعة بعد ذلك. فسأله: لمَ؟! فقال: سقيتك قدحاً فزعمت أنك خادم خاصة، فاحتملتُ ذلك، ثم سقيتك الثاني، فزعمت أنك قائد، واحتملتُ ذلك أيضاً، ثم سقيتك الثالث فزعمتَ أنك خليفة، وأخشى ما أخشاه لو أنني سقيتك الرابع فسوف تدعي أنك نبي مرسل، والعياذ بالله.
وبينما هما يتجادلان، إذا بالخيل تطبق عليهم، ونزل منها الفرسان والحشم والخدم، ويبدو أنهم قد تقصوا أثر الحصان حتى أوصلهم إلى المكان، وما إن شاهد الأعرابي هذا الحشد الهائل حتى طار قلبه، وحاول أن يهرب للنجاة بنفسه، فأمسكوا به، وهو يصيح بالخليفة: أشهد أنك صادق، أشهد أنك صادق.
وكاد الخليفة أن يسقط من شدة الضحك، وقال له: وأنت كذلك صادق، وأمر له بمال وكسوة. انتهى.
قاتل الله أم الخبائث، لهذا نهانا - عز وجل - عن تعاطيها؛ لأنها تسبب العداوة والبغضاء عند البعض، وقد تجعل الصادق منهم جباناً كذاباً، والحليم أحمق، والأمين سارقاً، والعاقل الرزين يصبح خفيفاً وراقصاً وماجناً وضارب دف في كثير من الأحيان.
أبعدنا الله عنها في دنيانا الفانية، ونشرب مثلما وعدنا الله من أنهار جنّة الفردوس.