عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

«أوراق الجنة»... الافتراضية

نشْر «أوراق الجنة» وثائق «باراديس» كاشفاً عن تفاصيل الاستثمار في ملاذات ضريبية آمنة، أثار زوبعة استخدمت للنيل من الخصوم السياسيين أو لدعم الدعوة لتغيير طبيعة التعاملات المالية في المجتمع، بدلاً من التركيز على هدف صاحب الضمير الذي سرق الوثائق أصلاً وهي محاولة المؤسسات الضخمة «المحترمة» عدم دفع الضرائب المستحقة على الأرباح.
النشر أيضاً كشف عن الانتقائية وازدواجية معايير كثير من الإصلاحيين.
فلنتاول أولاً بعض المصطلحات، خاصة أن كثيرين يعتقدون أن عدم دفع الضرائب بالكامل عمل ليس أخلاقياً؛ لأنها لازمة لتمويل الخدمات العامة، خاصة التي تدعم الحياة اليومية للفقراء والمحتاجين. لكن يجب ألا نخلط بين ما هو قانوني وما هو أخلاقي.
هناك تعبيران مختلفان تخلط المعاجم العربية في ترجمتهما: «التهرب من الضرائب (Tax evasion)» وهو مخالفة مالية (جريمة في بريطانيا وكثير من البلدان) تتفاوت عقوبتها ما بين غرامة مالية والسجن؛ و«تجنب دفع ضرائب (Tax avoidance)» وليست مخالفة قانونية، وإن اعتبرها البعض «عملاً غير أخلاقي».
لاحظ «ال» التعريف في الأولى «الضرائب»، والثانية بلا «ال» التعريف.
اللوائح الضريبية تسمح بتجنب دفع ضرائب معينة، كاتفاقيات الازدواج الضريبي (بين بلدين يسمحان للشخص بأن يدفع الضرائب على الأرباح في أحدهما فقط ولا يدفع في الثانية حيث لا تتجاوز إقامته فيها عدداً محدداً من أيام السنة)، وتسجيل المنشأة الاقتصادية كمؤسسة خيرية والاستثمار لأجل الورثة بعد الوفاة.
أليست البضائع المعروضة في السوق الحرة في المطارات وسيلة مشروعة لتجنب دفع ضرائب، يدفعها المستهلك إذا اشترى المنتجات نفسها من السوبر ماركت المحلي؟ فالسوق الحرة أصلاً كانت للاستهلاك أثناء السفر وقت كان يستغرق أياماً، فمن سيدخن مائتي سيجارة أو يتجرع لتراً من المشروبات في رحلة خمس ساعات؟
وتسمع تعبير استثمار «أوف - شور» (من الإنجليزية خارج الساحل)، أي الاستثمار في منطقة جغرافية خارج حدود تطبيق القوانين المالية.
وهناك تعبيرات عن استثمارات تختلف معاملاتها الضريبية كالصندوق، والوديعة المزمنة المشروطة لأعمال خيرية (الأوقاف في مصر وغيرها)، وشركات الأسهم النائمة (أي صاحب الثروة يمتلك أقلية الأسهم والأخرى نائمة لتقليل نسبة أرباحه لتقليل الضرائب، والبقية يعاد استثمارها في الشركة نفسها).
فارق آخر في تعبيرين، حتى معظم الإنجليز يخلطون بينهما وذلك في رأيي سبب الزوبعة الأخيرة؛ وهما تعبيرا الثراء والغنى.
الثروة wealth (أصول ثابتة كعقارات وأراض وأسهم ومقتنيات فنية).
الثري wealthy ليس الغني Rich (وجمعها أغنياء وتعني من لديهم سيولة نقدية وحرية إنفاقها).
فشخص دخله ألف جنيه والتزاماته 500 جنيه أغنى من آخر دخله خمسة آلاف والتزاماته 4900 جنيه.
وربما التعبير الأهم والأقدم أن «رأس المال لا وطن له».
الأمثلة والتعبيرات ضرورية. فالزوبعة المثارة ضد قائمة «أوراق الجنة» عاطفية لا تستند إلى حقائق قانونية ومالية على الأرض في إدانتها المستثمرين في مشروعات وحسابات «الأوف - شور» وسببها خلط في التعبيرات والمفاهيم التي طرحتها أعلاه. مثلاً الخلط بين «الثراء» و«الغنى»، وهي حقيقة أعيشها بنفسي.
ترملت جارتنا بموت زوجها في البحرية في الحرب العالمية في 1943، عجوز في الثالثة والتسعين، صاحبة عقار تقدر دارها بمليونين من الجنيهات فهي في قائمة «الأثرياء». معاشها الشهري بصفتها أرملة حرب لا يكفي دفع فواتير الطاقة، (يتبرع الجيران بشراء حاجاتها والطعام، لأنها تعتقد أن عشرة جنيهات كافية بأسعار 1973).
في دعوة المتحمسين لمعاقبة أصحاب الثروة بضرائب «بلشفية» ستدفع العجوز (التي تعيش على تبرعات الجيران) ضريبة عقار 10 في المائة (نحو ألفي جنيه شهريا).
وهنا بيت القصيد. الضرائب المتزايدة (الدخل، والقيمة المضافة، والتمغة، والعقار، وزيادة قيمة الأصول، والبلدية، والبيئة، والسيارة، وركن السيارة، والوقود المنزلي، وأرباح الاستثمار) تدفع الناس إلى التهرب من الضرائب. تعقد لوائحها، لا يفهمها الفرد ويراها ظلماً. ويعتبرها الاقتصاديون معرقلة للتنمية، أدت إلى ظهور صناعة الابتكار في التعاقدات المالية وتأسيس شركات «اقتصاد الأوف - شور».
الهجمة الهستيرية على المستثمرين «والأثرياء» الذين ظهرت أسماؤهم في «أوراق الجنة» عدسة لفحص التناقض السيكو - اجتماعي في التفكير الجمعي لصناع الرأي العام.
كل هذه الاستثمارات قانونية ولم تخرق اللوائح في تجنب دفع مزيد من الضرائب.
مثلاً «بي بي سي» و«الغارديان» ركزتا على استثمار (10 ملايين جنيه) تابعة للخاصة الملكية (من جملة 500 مليون) أوف – شور، بينما تدفع الضرائب كمبادرة اجتماعية (التاج مستثنى من الضرائب). «بي بي سي» تدفع تسعة ملايين لبطل حلقات فكاهية وزوجته في حساب شركة أوف - شور يعاودان «اقتراضه». والقرض معفي من الضرائب. «الغارديان» تستثمر شركتها القابضة ثروتها أوف - شور، وخسائرها المحاسبية تعني أن ضرائبها صفر في بريطانيا.
شخص في الأعمال الحرة يحرم من فرصة المعاش الذي يتلقاه موظفو الدولة والقطاع العام والشركات الكبرى عند التقاعد. الرجل يقتطع من قوته ويقترض للاستثمار في عقار أو اثنين للإيجار ويريد أن يبيع أحدهما ويدفع كل ديونه عند التقاعد دون أن يشكل أعباء على الدولة في شكل معاش أو رعاية صحية. اللوائح الضريبية تفرض عليه ضريبة «تزايد قيمة رأس المال والأصول» بأكثر من 40 في المائة إذا قرر بيع العقار (مع ضرائب وتكاليف بيع وتمغات أخرى) أو ضريبة مماثلة على دخله من تأجير العقار. وبالتالي فليس لديه فرصة التقاعد وسيظل يعمل (في إدارة استثمار المعاش) حتى يسقط ميتاً أو يصاب بعجز يدخله مستشفى أو ملجأ، وتُضطر الدولة (التي أدت سياستها المالية إلى مأساته) للإنفاق عليه.
عشرات الآلاف مثل نموذج هذا الشخص باستثمارات صغيرة، يفتقرون إلى إمكانيات مؤسسات ضخمة كـ«الغارديان» و«بي بي سي» و«غوغل» و«ستار – بكس» لتأسيس شركات عابرة للحدود وتوظيف محامين ودور محاسبة عالمية.
المسؤول الأول عن وجود الاستثمارات خارج ساحل البلاد القوانين المالية واللوائح الضريبية التي تتناقض والواقع الاجتماعي.
أما إذا أغلقت الحكومات ما تسميه التيارات الاشتراكية (شعارها زيادة الضرائب بلا تقديم بديل عن مصادر الاستثمار) بالثغرات القانونية لتجنب دفع الضرائب فستذهب الاستثمارات إلى مناطق أخرى قوانينها أكثر مرونة وتحرم البلد من الوظائف التي تخلقها الاستثمارات.
ما يغفله من يدينون اقتصاديات الأوف - شور، أن بلدانهم، كأي بلد في العالم، هي منطقة أوف - شور لاستثمار مؤسسات وأفراد وجدوا قوانينها المالية أكثر مرونة من لوائح بلادهم الأصلية.
«فالجنة» هي الوطن الأفضل لرأس مال لا وطن له.