فاضل السلطاني
محرر الثقافة والكتب في «الشرق الأوسط» منذ عام 1997. نشر عدة كتب شعرية وترجمات. وفي الدراسات له «خمسون عاماً من الشعر البريطاني» و«الأرض اليباب وتناصها مع التراث الإنساني». وأصدر بالانجليزية «فيليب لاركن شاعراً منتمياً» و«ثلاثة شعراء محدثون». مُجاز في الآداب من جامعة بغداد، وحاصل على درجة الماجستير في الأدبين الأوروبي والأميركي من جامعة لندن.
TT

جيراننا البعيدون عنا

في لقاء صحافي مع عميدة الاستشراق الألماني الراحلة آن ماري شيمل، نُشر في «الشرق الأوسط» عام 1996. تحدثنا عن الأدب العالمي، وخاصة البريطاني والفرنسي والألماني، والشعراء والكتاب والمفكرين الغربيين الذي تأثرنا بهم في المنطقة العربية. وقد استغربت المستشرقة الشهيرة من جهل معظم المثقفين العرب بآداب جيراننا الأقرب إلينا، وتعني الإيرانيين والأتراك، فنحن نعرف كل شيء تقريبا عن «الأدب البعيد عنا، وعن بيئتنا، ومناخنا الروحي»، حسب تعبيرها، لكننا لا نكاد نعرف شيئا عن أدبين غنيين، هما أقرب إلينا، ويعكسان هموما اجتماعية وثقافية تكاد تكون متشابهة، بحكم الجغرافيا التي نتقاسمها والتاريخ الذي عشناه معا لقرون عدة، مرة سلاما ومرات كثيرة صراعا، لكنه يكاد يكون تاريخا واحدا مهما تعددت تلاوينه.
ملاحظة آن شيمل، أو انتقادها المبطن، صحيح جدا. فنحن متابعون جيدون لكل ما ينتجه الغرب، خاصة منذ خمسينات القرن الماضي. ونكاد نعرف شعراءهم وكتابهم ومفكريهم أكثر من قسم كبير من المثقفين الغربيين أنفسهم، الأمر الذي يثير استغرابهم وإعجابهم أيضا. وهذه المعرفة بالغة الأهمية بالطبع، وقد أغنت ثقافتنا ونتاجنا منذ النصف الثاني من القرن الماضي، وشكلتنا إلى حد بعيد، على المستويين الذهني والفكري على الأقل. ولكنها أيضا غربتنا لدرجة كبيرة، بسبب الانفصال التراجيدي بين المثال والواقع. لا يعني هذا الكلام قط الدعوة لفك الاشتباك مع الثقافة الغربية، وإنما التعامل معها باعتبارها ثقافة من ثقافات، وليست الثقافة الوحيدة فوق الأرض. وهذا هو جوهر ما يدعو إليه مفكرو ما بعد الحداثة، التي للأسف لم نفهمها بعد، رغم تكرارنا الممل للمصطلح في أحاديثنا وكتاباتنا. ما بعد الحداثة تعني، قبل كل شيء، تفكيكا للمركزية الأوروبية، والغربية عموما، التي هي جوهر فلسفة الحداثة، والتي أنتجت ثقافتها الكونية لأسباب سياسية واقتصادية معروفة، وهذا التفكيك يعني، فيما يعني، إحياء وإنعاش الثقافات الأخرى التي همشت، أو عوملت كثقافات دنيا. لقد أصابت المركزية الأوروبية شعوب ما يُسمى بالعالم الثالث، بعقد نقص ثقافية كثيرة، انعكست على نظرتنا لثقافات بعضنا البعض، وعلى نظرتنا لأنفسنا أيضا. وربما يكون أدب أميركا اللاتينية هو الأدب الوحيد الذي أحدث شرخا كبيرا في جدار المركزية الغربية الصلد.
ولكن هذه المركزية ليست السبب الوحيد الذي حدد توجهاتنا الأدبية والثقافية نحو الغرب، على حساب ثقافات شعوب على بعد أمتار منا. فالسياسة حاضرة أيضا وبقوة، وهي تبدو السبب الأقوى الظاهر. وقد انعكس ذلك على مناهجنا الدراسية، ودراساتنا الأكاديمية، وترجماتنا، ولا يزال الوضع نفسه، ربما لأكثر من قرن. ومن هنا، نرى أن المختصين بالأدبين الفارسي والتركي قليلون جدا، قياسا بالآداب الأخرى، وإن ما يُنشر في صحفنا ومجلاتنا المختصة لا يكاد يُذكر. لقد توقفت معرفتنا عند كلاسيكيات الأدب الفارسي، ونجهل تماما شعراءه وروائييه ومفكريه واتجاهاته الثقافية والفنية المعاصرة (إذا استثنينا السينما التي اجتاحتنا هي) منذ خمسينات القرن الماضي، في الأقل. وربما كان حالنا أفضل قليلا مع الأدب التركي المعاصر بفضل مترجمين مجتهدين نقلوا لنا أعمال ناظم حكمت ويشار كمال وعزيز نيسين، وأخيرا أورهان باموك، الذي عرفناه بفضل جائزة نوبل. ولكن ذلك مجرد مقطع صغير جدا من المشهد الثقافي الشامل.
إدراكا منا لهذه الحقيقة المرة، نحاول في صفحة «ثقافة» أن نستدرك الخطأ، ونلقي الضوء بين فترة وأخرى، وبما يتيسر لنا، على الاتجاهات العامة في أدب وثقافة بلدين جارين تجمعنا وإياهما مصائر متشابكة، مرتبطة بعضها ببعض، ليس فقط لأهمية البلدين الثقافية، ولكن أيضا من أجل أن نغتني أكثر.