د. عبد المنعم سعيد
عضو مجلس الشيوخ المصري حالياً، ورئيس مجلس إدارة «مؤسسة المصري اليوم» الصحافية في القاهرة، ورئيس اللجنة الاستشارية لـ«المجلس المصري للدراسات الاستراتيجية»، وسابقاً كان رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة الأهرام» الصحافية، و«مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية»، و«المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية»، وعضو مجلس الشورى المصري. كاتب في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ عام 2004، و«الأهرام» و«المصري اليوم»... وعدد من الصحف العربية. أكاديمي في الجامعات والمعاهد المصرية، وزميل زائر في جامعة «برانديز» الأميركية، ومؤلف للعديد من الكتب.
TT

من الاندماج إلى التفكيك وبالعكس

تسعينات القرن الماضي كانت العصر الذهبي لفكرة «العولمة». أصبح العالم «قرية صغيرة»، وأكثر من ذلك وصل إلى نهاية التاريخ. لم يعد هناك «ديالكتيك» جديد بعد أن انهارت الفكرة الاشتراكية السوفياتية أمام الليبرالية الديمقراطية الرأسمالية الغربية، وأصبحت الدنيا كلها مفتوحة لالتقاء الأفكار والسلع والبشر. ورغم أن الاتحاد السوفياتي تفكك إلى خمس عشرة دولة، فإن ألمانيا اتحدت، لأن الدول الديمقراطية لا تتفكك، وإنما تندمج في اتحاد ضخم ممتد إلى 27 دولة تسعى إلى عملة واحدة (اليورو)، وإلى حزام أمني واحد الـ(شنغن) وسوق مشتركة، ولفترة ولو قصيرة بدا أن بروكسل ربما تصبح عاصمة أوروبا. تفككت في الوقت نفسه يوغوسلافيا إلى سبع دول، وأصبحت تشيكوسلوفاكيا دولتين، وكذلك إثيوبيا، وخرجت تيمور الشرقية من إندونيسيا. وخرج علينا أستاذ العلوم السياسية جيمس روزوناو بنظرية أن أحد القوانين الحاكمة في العلاقات الدولية، هي الجدل بين الاندماج أو الاتحاد في جانب، والتفكك والتفتت في جانب آخر.
قوانين الطبيعة فيها بعض من هذا، فالخلايا والجينات البشرية، والذرة والنواة، تنقسمان وتتحدان، وفي نهاية العام الماضي قيل إن واحداً من تنبؤات أينشتاين عن اندماج نجوم وثقوب مظلمة يمكن حدوثها ورصدها؛ لأنه بعد آلاف السنين الضوئية سوف يصل لنا ضوء منها. وما يصدق على الطبيعة يصدق على الدول، فالكيانات الاجتماعية الكبرى والصغرى ليست بنائية عن القوانين الأساسية للكون. وفي هذه الحالة، فإن حدوثها سوف يكون تاريخاً يمكن مشاهدته بالعين المجردة بلا ميكروسكوب ولا حتى تليسكوب. ورغم أن الطبيعة معقدة بطبيعتها فإن العلم قطع أشواطاً كثيرة في رصد «كيمياء» الاتحاد والانشطار، والشروط التي يحدث فيها أي منهما. لكن دراسة المجتمعات والدول لا تزال متأخرة، وربما كانت توازنات القوى، والنظام السياسي ودور الأفراد فاعلاً في هذه الحالة، ومع ذلك فإنه ليس من السهل فهم ما يريده الإنسان.
الخروج البريطاني (بريكست) من الاتحاد الأوروبي كان مفاجأة فكرة مجنونة لم يؤيدها أحد ذو حيثية سياسية أو اجتماعية في بريطانيا، ومع ذلك فاجأت الجميع، وانصاع النظام السياسي رغم احتجاجات اسكوتلندا وجبل طارق وشمال آيرلندا، مهددين بالانفصال من أجل الاتحاد! وبعد أن قال الشعب كلمته لم يكن هناك بدّ من الانصياع حتى ولو فكّر الجميع في طريقة ما لاستمرار الاتحاد بشكل أو بآخر، لكن ألمانيا صار أمامها فرصة تاريخية لتحقيق حلم تاريخي في قيادة القارة الأوروبية. ولم يحدث تمجيد في تاريخ المنطقة العربية للدولة الوطنية كما حدث بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية؛ والآن فإن العراق وسوريا ولبنان واليمن وليبيا تواجه أسئلة صعبة واختبارات مستحيلة. كان التصور الكردي هو أن مشاركة الأكراد في الحرب ضد «داعش» على جبهتي الموصل والرقة سوف تسمح لهم بالبدء في إقامة الدولة الكردية المستقلة مع الفوز بمدينة كركوك في الوقت نفسه. كانت القضمة أكبر من أن تبتلعها كردستان، وكانت مؤلمة بحيث لا يتحملها الجسد العراقي. كان قرار مسعود بارزاني بعقد الاستفتاء على الاستقلال رغم كل التحذيرات مغامرة لم تجرِ فيها حسابات دقيقة، فانفصل الإقليم الكردي لفترة قصيرة انتهت بعد أن انقسمت القوى السياسية الكردية بصددها بين الحزب الوطني والحزب الديمقراطي، أو بين أربيل والسليمانية، ووجدت القيادة العراقية في بغداد أنه لا مفر من الدخول إلى كركوك، وبتأييد من الفرس والأتراك والعرب والأميركيين والروس في وقت واحد.
مثل ذلك كان ممكناً إلا أن يكون عجيباً لو أنه حدث في العراق وحده؛ لكن المسألة باتت واحدة من القوانين الطبيعية عندما مرت كاتالونيا الإسبانية بالتجربة نفسها. تاريخ أهل كاتالونيا مع بقية المملكة الإسبانية فيه الكثير من ذكريات الصراع، وفي يوم من الأيام قامت الحرب الأهلية بين برشلونة التي تزعمها الشيوعيون والاشتراكيون والفوضويون الجمهوريون جميعاً، ومدريد التي تزعمها الفاشيون والملكيون. كانت حرباً طاحنة استمرت لثلاث سنوات (1936ـ 1939)، كانت المقدمة الطبيعية للحرب العالمية الثانية التي انقسمت فيها أوروبا على خطوط قريبة. هذه المرة في 2017، فإن كاتالونيا لم تكن مناصرة للطبقة العاملة وحاملة للمنجل والمطرقة، وإنما دولة اشتاقت إلى احتكار غناها بعيداً عن مسؤوليات المملكة الممتدة الأقل ثروة، ويكفيها أن معها نادي برشلونة وميسي اللاعب العجيب. بشكل ما فإن كاتالونيا أرادت الخروج من المملكة على الطريقة البريطانية الـ«بريكست»، بأن تعقد استفتاءً يعقبه قرار من برلمان الولاية، وبعد ذلك يكون النداء بأن يلتقي الجميع في الاتحاد الأوروبي من أول قواعده الاقتصادية وحتى تنظيماته للعصبة الأوروبية في المباريات الرياضية. لكن مدريد لم يكن لديها هذه الروح المتباسطة، حتى ولو كان لديها ريال مدريد وفيه كريستيان رونالدو، فخلعت الحكومة الكاتالونية، واقتحمت برشلونة مهددة متوعدة؛ وفي دولة ديمقراطية فإن الانقسام ليس في هذه الحالة واحداً من الممكنات. قبل قرن ونصف القرن من الزمان كلف انفصال الجنوب عن الشمال في الدولة الأميركية ما يصل إلى ملايين القتلى والجرحى. هذه المرة في كاتالونيا فإن التكلفة لم تزد عن نفي السيد كارلس بيتشيمون، رئيس الإقليم إلى بروكسل.
قوانين الطبيعة تكون في العادة مستقرة، وعندما يجري اكتشافها فإنها لا تغير رأيها، لكن الإنسان الذي هو أيضاً كائن طبيعي، أو هكذا يفترض، لا يؤمن بمثل هذا الاستقرار اللهم إلا إذا راقبنا أزمنة طويلة؛ كلها تحكي لنا تلك الحركة الكونية بين التفكيك والانقسام، والوحدة والانفصال. الأمر في كل الأحوال لا يحتاج إلى مؤامرة عالمية، فالواقع فيه الكثير من الانقسامات التي قد ترى القوى الكبرى أنه من الأفضل أن يتخلص الجميع من آلام البقاء معاً. لم تكن فلسطين وحدها هي التي صدر بشأنها قرار مشؤوم للتقسيم بين دولة عربية وأخرى يهودية، فهي نفس الفترة التي جرى فيها تقسيم ألمانيا والهند وكوريا وفيتنام، كان التقسيم حلا لكثير من المعضلات حتى ولو تولدت معضلات أكبر وأخطر نتيجته. وسواء حدث الأمر في أربيل أو بغداد أو برشلونة أو مدريد، فإن التفاعلات الخاصة بالجغرافيا السياسية، والجغرافيا البشرية، كانت هي التي حسمت الأمر ولو إلى حين؛ فالأغلبية في العراق وإسبانيا نجحت في توفير مناخ إقليمي ودولي مواتٍ لاستمرار الدولة موحدة. مثل هذا لن يكون نهاية الطريق، أو أنه سوف يكون قدوة لما سوف يحدث في سوريا واليمن وليبيا وغيرها من الدول. فلكل حالة ظروفها، وما زالت التفاعلات تجري بكل سرعة وعنف، وبات فيها ما يعجل بها من عناصر، وربما كانت تكنولوجيات الدنيا كلها تجعل العولمة مستمرة ومتسارعة، لكنها عولمة كل فرد وكل جماعة وكل قبيلة مع العالم كله، إنها وحدة المتفرقين والمنفصلين الذين وجدوا أنفسهم في مواجهة مع الدولة في أشكالها المعاصرة، وطنية كانت أم ديمقراطية. القصة على أي حال لم تصل إلى نهايتها بعد.