إميل أمين
كاتب مصري
TT

إيران... ومواقف أوروبية متخاذلة

يَحار المرء في فهم الموقف الأوروبي من الاستراتيجية الأميركية الجديدة جهة إيران. هنا نتوقف ونتساءل ما الذي يدفع أوروبا في طريق يهدد علاقاتها الاستراتيجية بالولايات المتحدة من جهة، وبحلفائها وشركائها في منطقة الخليج العربي والشرق الأوسط من ناحية ثانية؟
يدرك الأوروبيون جيداً - لكنهم يتغافلون - أن الإيرانيين ينطلقون في تفكيرهم من مبدأ «التقية» فيُظهرون ما لا يُبطنون، والتحايل من ثم على القاصي والداني، وعليه لم تكن موافقتهم على الاتفاقية إلا من قبيل السعي للحصول على مليارات الدولارات لإعادة عجلة الاقتصاد الإيراني التي توقفت طويلاً، ورفع العقوبات، وفسحة من الوقت لعقد ونصف العقد تقريباً، تقوم فيها بإعادة بناء هيكلها التكتوني، وساعتها ستعاود تخصيب اليورانيوم كيفما شاءت.
السؤال الآن، إذا كان الأوروبيون يدركون حقيقة المشهد، فلماذا هذا التعامي، والموقف المنافي والمجافي للمنطق الذي يتطلب ابتكار وتخليق آليات جديدة حقيقية لا وهمية للتضييق على إيران، لوقف برامجها كافة الصاروخية والنووية وغيرها؟
قديماً قالوا لقد أذل الفقر أعناق الرجال، ويبدو أنه في زماننا هذا قد ذهب الأوروبيون وراء مطامحهم، وربما مطامعهم الاقتصادية في الأسواق الإيرانية، مفضلين الاقتصاد على الأمن، والجميع يعلم كيف تسابقت الشركات الأوروبية على الإيرانيين منذ عام 2016 وحتى الساعة.
هنا ليس حباً وكرامة تدافع فرنسا - ماكرون عن الاتفاقية، ذلك أنه منذ توقيعها انتعش تعاونها التجاري مع إيران بنسبة 325 في المائة، وكانت مجموعة «توتال» النفطية أول شركة نفطية غربية تعود إلى إيران منذ أكثر من عقد.
أما ألمانيا التي يحذر وزير خارجيتها من أن أحداً لن يثق لاحقاً بالاتفاقيات الدولية، فمنطلقاته مالية اقتصادية تجارية بحتة، سيما أن بلاده كانت أكبر شريك تجاري لإيران قبل العقوبات، وبعد رفعها زادت صادراتها العام الماضي لطهران بنسبة 26 في المائة، فيما عادت شركة «سيمنز» العملاقة للعمل هناك، ولديها عقود بمليارات الدولارات، بينما شركة «ديلمر» تبدأ خطوط إنتاج سيارات المرسيدس بنز على الأراضي الإيرانية.
إيطاليا بدورها لم تخرج عن الطوق ذاته، وروما اليوم أكبر شريك تجاري لإيران في الاتحاد الأوروبي، ومؤخراً وقعت عدداً من الاتفاقات في مجال السياحة والطاقة المتجددة والسكك الحديدية.
لم نتحدث هنا عن الصفقات العسكرية مع إيران، وبعضها معلن عنه، كقطع البحرية التي باعتها روما لطهران مؤخراً، ناهيك عن شركة الطيران الأوروبية «إيرباص» التي وقعت عقداً لتصنيع 100 طائرة، ضمن احتياجات فعلية تصل إلى 500 طائرة للسوق الإيرانية.
ازدواجية أخلاقية قاتلة نراها اليوم في أوروبا، إذ نستمع إلى أحاديث من عينة أن أمن الخليج هو من أمن أوروبا، كما قالت رئيس وزراء بريطانيا تريزا ماي في رحلتها الأخيرة للمنطقة، والآن يؤكد بوريس جونسون وزير الخارجية البريطاني أنه «لا يزال مقتنعاً بأن الاتفاق النووي إنجاز تاريخي يجعل من دون شك العالم أكثر أماناً».
إلى هذا الحد يمكن أن يضحى الأوروبيون بأمن شعوبهم على مذابح المنافع الاقتصادية الإيرانية قصيرة النظر؟
دعونا نذّكر الأوروبيين الذين يتشدقون صباح مساء كل يوم بالديمقراطية وحقوق الإنسان والحرص على سلامة شعوبهم، بأن صواريخ إيران الباليستية، لا سيما الصاروخ «شهاب 4»، تغطي سماء الشرق الأوسط وأجزاء واسعة من أوروبا، وهو نموذج من الصاروخ السوفياتي «إس إس 4»، والعهدة هنا على معهد «الشرق الأوسط» الروسي، ناهيك عن دعم طهران للإرهاب.
يعلم الأوروبيون تمام العلم أن قرار الأمم المتحدة 2231 يطالب إيران بعدم إطلاق الصواريخ القادرة على حمل رؤوس نووية، لكنهم يغضون البصر عن تجارب طهران، وفي أقصى تقدير ينتقدونها على استحياء، ثم يلوذون بالصمت بعد اعتراض إيران على تصريحاتهم.
هل ينتظر الأوروبيون ظهور قوة عسكرية تقليدية أو نووية تؤمن برؤى اسكاتولوجية أخروية من نوعية المهدي المنتظر، الذي لا بد أن يُولد إيرانياً لإصلاح حال العالم عبر القوة الخارقة الإيرانية؟
ألم يستوعبوا دروس الشمولية القاتلة من النازية الفاشية؟
ثم خذ إليك ما يلي... هل يمكن للأوروبيين بالفعل السعي في طريق تحالفات جديدة مع روسيا والصين، والتخلي عن رباطات قديمة قائمة منذ سبعة عقود ونيف مع الأميركيين؟ إنهم بذلك يمضون قدماً في طريق تفكيك «الناتو» وقبله أو بعده «الأمم المتحدة» ذاتها.
يدرك العقلاء في أوروبا أن أحاديث التحالف وحزام الأمان مع موسكو وبكين ضرب من ضروب الوهم، فالزيت والماء لا يختلطان، وقيصر روسيا القوي قادر على إغلاق أنابيب الغاز لتموت أوروبا برداً متى شاء، أما الصينيون فينظرون لأوروبا على أنها سوق تجارية إلى لحظة إطلاق إمبراطوريتهم العسكرية التي يمكنها التهام القارة الأوروبية في وجبة عشاء خفيفة.
أخيراً لماذا يتناسى الأوروبيون شراكات اقتصادية وأمنية مع أميركا ومع دول الخليج، وبقية دول العالم العربي، التي تتعرض لمخاطر جسيمة من قبل أطماع إيران، ويركزون على صفقاتهم مع طهران فقط؟
أمن العرب مسؤولية العرب، وهو متقدم على أي طرح آخر... هل تفيق أوروبا قبل القارعة، أم أن رنين الذهب الإيراني يعمي العقول والأبصار؟