يقول الشّاعر الكبير محمود درويش: «إنا نحب الورد لكنا نحب الخبز أكثر... ونحب عطر الورد لكن السنابل منه أطهر...»، فالخبز في معانيه الماديّة والرمزيّة أشبه ما يكون بالأرض والأم: إنّه الأمن وضمان دقات القلب وتنفس الرئتين.
الخبز: كلمة قليلة الحروف كثيرة المعاني. وصفه درويش في قصيدة مهداة إلى إبراهيم مرزوق بكونه معجزة. وهو شأن يومي إلى درجة أن كل شيء يتكرر بشكل يومي نقول عنه: لقد صار الخبز اليومي.
نتحدث عن الخبز بمناسبة إحياء العالم غدا اليوم العالمي للخبز أو كما يسميه البعض اليوم العالمي للغذاء. ونحن نفكر في الخبز، فإننا نفكر في أقصر الطرق التي تحقق لنا الأمن... أي نفكر في الحياة.
فمن يضمن الخبز يضمن الرمزي ومن استبد به الجوع فقد تمّ استبعاده من صناعة المعنى وتشكيل الرمزي.
نعم الخبز ليس كل شيء ولكن الخبز هو أول الأشياء. لا معنى للأشياء التي تعقبه دون وجوده. بالخبز يكتب الإنسان قصته. وفي الخبز غالبية فصول رواية الإنسان في الحياة.
قد يرى البعض في هذه المقاربة نبرة ماركسيّة وتحليلاً مادياً للحياة. وهو كذلك الحياة عناصر مادية أولاً.
كل العالم يلهث وراء الثروة من أجل الخبز: هناك من يعجز عن توفير رغيف وآخرون بالكاد يوفرونه والبعض الآخر يمسكون بما بعد الخبز وأكثر منه.
أليس الخبز هو محرك التاريخ؟ كيف حال خبز العرب اليوم؟ هل نعيش أزمة خبز بالمعنى الضيق والواسع للخبز؟ هل ضمانات خبز الغد موجودة؟
طبعاً أزمة الأمن الغذائي عالمية وأرقام فقراء العالم دليل دامغ حيث يقول بعضها إن أكثر من مليار شخص يعانون من الفقر أي ما يعادل سدس سكان العالم. وفي العالم العربي هناك 40 مليون عربي يعانون من نقص التغذية ومائة مليون يعيشون تحت خط الفقر.
إذن هناك أزمة خبز في بلداننا. أزمة تفاقمت في السنوات الأخيرة وأدت إلى ما سمي الثورات العربيّة التي أخفقت إلى حد الآن في إشباع توقعات الثائرين بسبب الخبز: العاطلون عن العمل والفقراء والمهمشون في عمليات توزيع الثروة في بلداننا.
صحيح أن الأمن ليس غذائياً فقط ولكن عندما يصبح الأمن الغذائي مهدّداً فإنّه لا معنى لأبعاد الأمن الأخرى. وليس معنى هذا القول بوجود مجتمع لا مشكلة في الخبز يعرفها وإنّما التحدي دائماً يتصل بالتخفيض من نسبة الجوع والفقر والبطالة.
وهكذا نفهم لماذا كثيراً ما يأخذنا تناول مشكلة الخبز والأمن الغذائي إلى المعنى المادي الذي يهيمن على مختلف أبعاد الفقر الأخرى. وهي هيمنة مشروعة جداً: فارتفاع نسبة المحرومين من الأمن الغذائي يعني انتشار اللامساواة والتوزيع غير العادل للثروات والاستغلال والظلم والتهميش. وكلّما ارتفعت نسبته في مجتمع ما دل ذلك على وجود عطب في البناء الاجتماعي.
يبدو لي أن مشكلة الخبز التي ازدادت تعقيداً خصوصاً في البلدان التي عرفت الثورة والأخرى التي تعيش صراعات أهلية، تؤكد تأزم مسألة الأمن الغذائي التي أصبحت في مهب الصراعات ومشاكل الإرهاب؛ ذلك أن الأزمة الاقتصادية ينتج عنها تدريجياً وحسب مستوى الأزمة مشكلة في الأمن الغذائي الذي يجعل سيناريوهات الاحتجاج والثورة مفتوحة على مصراعيها.
لقد سجل العام الماضي تراجعاً على مستوى العالم في نسبة الفقراء، حيث تحولت من 13 في المائة إلى 9 في المائة. وفي العالم العربي أظهرت تقارير الأمم المتحدة منذ عام أن 11 مليون عربي يعيشون على أقل من دولار في اليوم. وإذا كان الفقر على مستوى العالم عرف تراجعاً طفيفاً فإنّه في العالم العربي تدهورت الأوضاع بحكم ما تعرفه بعض الدول من صراعات وحروب تمثل في حد ذاتها حافزاً لمزيد من الفقر ولمزيد من انتداب الفقراء. وهو ما يفسر لنا ارتفاع معدلات الفقر في بؤر التوتر مثل اليمن وسوريا...
يبدو لي أن أزمة الأمن الغذائي وتزايد عدد الفقراء في بلداننا قد عرقلا عملية الأمن الثقافي إن جاز الوصف. فنحن صباح مساء نتحدث عن تأزم ثقافي عميق وآليات المعالجة وكيف يجب الانخراط في وصفة تقوم على الجرأة في النقد والعقلنة، ولكن قلة قليلة ممن يستمعون لأن من يعاني من مشكلة الخبز لا يمتلك الأذن القادرة على الإنصات للمشكلة الثّقافيّة.
ماذا يعني هذا؟
إنه يعني بكل بساطة أن معالجة الأمن الغذائي ومشكلة الخبز مفتاح رئيسي لمعالجة مشاكل الثقافة والعقل العربي.. ذلك العقل الذي لا يشتغل كما يجب ومعدة جسده تتضور جوعاً.
فاليوم العالمي للخبز مناسبة للنظر بعين صارمة وناقدة لسياساتنا التنموية ولما قطعناه من وفاء إزاء التعهدات التي قدمتها النخب الحاكمة للشعوب العربية للتذليل من فداحة مشاكل البطالة والفقر والتهميش الاقتصادي.
إنا نحب الورد لكنا نحب الخبز أكثر...
ونحب عطر الورد لكن السنابل منه أطهر
9:10 دقيقه
TT
20
الخبز أكثر من الورد
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة