سيما العلماء التواضع، وإذا كان التواضع سيما العلماء، فالغرور سيما الفنانين، وبصورة خاصة أهل الطرب. الويل لك إذا حاولت انتقاد أحدهم. يصدُق ذلك عليهم شرقاً وغرباً. كانت النجمة الأوبرالية ماريا كالس تترك المسرح وتعود لبيتها حالما يزعجها شخص. لم يشذ عن ذلك فنانونا. يا ما عانيت منهم عندما كنت سكرتير الفرقة الشعبية في بغداد. كلمة واحدة ويزعل الممثل ويترك المسرح.
ولكنني أريد أن أخرج من هذا الإطار نجمين من نجوم الطرب العراقي؛ سليمة مراد وناظم الغزالي. تميز كلاهما بروح متواضعة ونفس كريمة. ولعل هذا ما جمع بينهما وربطهما بالرباط المقدس. كنت أقرأ يوميات الأديب الإذاعي إبراهيم الزبيدي في كتابه اللذيذ «دولة الإذاعة»، والظاهر أنه هو أيضاً اتسم بروح التواضع وطيبة القلب... روى فيما رواه عن أول لقاء له بالنجم العراقي الشهير في دار الإذاعة العراقية، وكان الزبيدي فتى غراً في أول مشواره الفني والأدبي يعمل في الإذاعة مستخدماً صغيراً، أنه فيما كان يقوم بعمله، سمع ذلك الصوت الذي كان يهيم به ويعتز بأغانيه؛ صوت ناظم الغزالي. كان يسجل أغنية له بمساعدة جوق الإذاعة ومهندس الصوت محمد علي صبري. اشتهر الغزالي بعشقه الأغاني الشعبية والكلاسيكية التي دأب على تطويرها وتحديثها. وفي تلك الساعة كان يجرب حظه مع تلك الأغنية الشعبية القديمة:
يا أم العيون السود ما أجوز أنا
خدك القيمر أتريق منه
ورغم وجود اللوحة على الباب وهي تقول: «ممنوع الدخول لمن ليس له عمل»، فإن إبراهيم الزبيدي تسلل إلى الاستوديو وراح يتطفل على المطرب الكبير ويستمع إلى الأغنية. ولكن الزبيدي، بصفته أديباً وشاعراً، أحسّ بشيء من النشاز وقبح التصوير، فقال للمطرب: «أستاذ ناظم: تسمح لي أقول كلمة؟». أجابه فقال: «تفضل». قال له: «بس ما تزعل. رأيي أن هذا الشطر من الأغنية الذي يصف خد حبيبته بالقيمر (القشطة) ويريد أن يفطر به، يحتاج إلى رغيف خبز واستكان شاي حتى يكتمل الفطور». أجابه ناظم الغزالي: «ما أفهم إيش تقصد». واصل الزبيدي كلامه فقال: «هذه الصورة، وأنت مطربنا الكبير، لا تليق بك. كيف تهين حبيبتك وتجعل من خدها فطوراً تفطر به؟».
وضع العازفون آلاتهم جانباً ونظروا شزراً بعجب لهذا الشاب الذي يتحدى المطرب الكبير. نظروا للغزالي ينتظرون جوابه. ولكن الغزالي أظهر تواضعه وابتسم نحو هذا الشاب... وضع يده على كتفه وقال ضاحكاً: «يعني شلون تريد أقول؟». أجابه قائلاً، قل:
يا أم العيون السود ما أجوز أنا
لونك الخمري سحر لقلوبنا
صمت المطرب للحظات وهو يتمتم مع نفسه، ثم قال: «الحق وياك». وهو ما فعل، فغيّر الكلمات في التسجيل الجديد، فحصلنا على تسجيلين مختلفين؛ أحدهما بالكلمات القديمة، والآخر بكلمات هذا الشاب الناشئ.
7:29 دقيقة
TT
من حكايات الطرب العراقي
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة