عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

البقرتان بين الرأسمالية والاشتراكية

سأبدأ بحكاية لا تزال تتردد لطرافتها، لكني سمعتها أولاً من معلمي المستر ستيوارت في 1958، وكان مسؤولاً عن النشاط التثقيفي والرياضي والفني أثناء العطلة الصيفية.
ضمن النشاط أن يقرأ كل تلميذ ثمانية كتب في فروع مختلفة من العلوم والآداب والفنون، ويكتب تقريرين في نهاية العطلة عما تعلمه.
الحكاية كانت ضمن إرشادات قدمها المستر ستيوارت في كل أسبوع قبل قراءة كتاب جديد؛ ملخصها شاب ورث بقرتين، فماذا سيكون عليه حاله بعد عشر سنوات؟
إذا كان الشاب هندوسياً، سيقدس البقرتين ويرعاهما، ويقترض للإنفاق عليهما حتى يفتقر ويخرب بيته.
أما إذا كان في جزيرة جبلية نائية لم تعرف التقدم والتطور، فسيجد من الخضرة حوله ما يكفي لتغذية البقرتين وحلبهما، ومقايضة ما يفيض من الحليب مع جيرانه بالخبز أو الحبوب... وبعد عشر سنوات، سيكون حاله كما هو لا يتغير، بينما تبدأ إنتاجية البقرتين في التدهور لأن عمر البقرة لا يزيد على عشرين عاماً.
أما إذا كان الشاب في روسيا (الاتحاد السوفياتي آنذاك)، فسيطرق باب بيته قوميسار الحزب الشيوعي، وتتكون لجنة تحدد تكلفة تغذية البقرتين، وأخرى لنظام حلب البقرتين صباحاً ومساءً، وثالثة لتوزيع الحليب بالتساوي على أهل الحي... وبمرور الوقت، يتناقص نصيب الفرد في الحي من نصف لتر إلى ملء فنجان من الحليب إلى ملعقة واحدة في العام العاشر، فتقرر لجنة رابعة أرسلتها موسكو للتفتيش أن تكلفة رعاية البقرتين تزيد أضعاف الإنتاجية، وتأمر بإنشاء لجنة خامسة للتحقيق في الأسباب.
وإذا كان الشاب في إنجلترا، فسيبيع إحدى البقرتين، ويقترض من البنك بضمان الثانية، ليكوّن رأسمال يمكنه من شراء ثور، وأغذية وأدوية ومعدات حديثة، ويتعاقد مع جمعيات زراعية للماشية وإنتاج الألبان واللحوم؛ يتكاثر الثور مع البقرة، ويؤجر الثور مرة في الأسبوع للتكاثر مع أبقار أعضاء الجمعية الزراعية (تجارة مربحة جداً لصاحب الثور في الريف الإنجليزي)... وبعد عشر سنوات، يكون لديه قطيع ومزرعة كبيرة ليس فقط للحليب، بل لمنتجات الألبان واللحوم وتلقيح الثور للأبقار، ويوظف مائتين شخص في مؤسسته.
كان ضمن قراءاتي كتاب فيلسوف الاقتصاد والسياسة الهنغاري كارل بولاني (1886 - 1964)، الصادر عام 1944، عن التحولات الكبيرة وأصول الأسس السياسية والاقتصادية للعصر وقتها، وإن كان البعض يصنف بولاني كسوسيولوجي للاقتصاد الاجتماعي، والآخر كمؤرخ للاقتصاد الاجتماعي السياسي. وكان الكتاب ضمن الكتب التي قرأتها مجموعتنا المكونة من أربعة أولاد مهتمين بالفلسفة والتاريخ والكلاسيكيات والأدب، أكثر من الاهتمام بالعلوم والتكنولوجيا والرياضيات.
وما قصده المعلم الجليل تعدد أشكال وأنماط إدارة الاقتصاد، وما عليك إلا التفكير على المستويين التكتيكي (المرحلي) والاستراتيجي (الطويل المدى)، موظفاً الأدوات الفلسفية والاجتماعية والاقتصادية المتاحة لتحقيق الأهداف المرغوبة على المدى الطويل عبر مراحل المدى القصير، وهي اللازمة لإدارة الحياة اليومية المعيشية.
الأمر الذي فتح صندوق ذكريات عمرها ستون عاماً في ذهني خطابان سياسيان؛ الأول ألقاه جون ماكدونل، وزير مالية الظل في حزب العمال المعارض، في مؤتمره السنوي في مدينة برايتون الساحلية في الأيام الماضية، ضمن موسم المؤتمرات للأحزاب البريطانية هذا الخريف، والخطاب الثاني كان لزعيم المعارضة العمالية جيرمي كوربين الذي استمر ساعة ونصفا، وكان مزيجاً بين حفلة غناء بوب شعبية لمطرب يعشقه الجمهور الشاب ويظل يغني باسمه، وما نعرفه في العلوم السياسية بـpersonality cult، أو ظاهرة الذوبان في عشق الزعيم وتقديسه وتحويل شعاراته وكل ما يقوله إلى قاموس سياسي جتماعي مقدس (كالكتاب الأحمر لماو تسي تونغ)، بصرف النظر عن واقعية الشعارات. وذكرني خطاب كوربين، الأربعاء، بالزعماء المصريين والعرب والأفارقة وفيديل كاسترو (استمر أحد خطاباته للحزب الشيوعي سبع ساعات وعشر دقائق).
فحوى خطاب وزير مالية الظل هو الاشتراكية الماركسية في صورتها التقليدية، كما جربت في مصر الناصرية وكوبا والمعسكر الشرقي: تأميم كل شيء، من المواصلات والتعليم وشركات البناء والخدمات. وفحوى خطاب زعيم المعارضة (الذي اخترع الشباب له أغنية في الحملة الانتخابية: كلنا من أجل كوربين) الصراع الطبقي، والاستيلاء على الثروات، وتحويلها إلى القطاع العام.
الخطابان اضطرا رئيسة الحكومة تريزا ماي إلى تعديل الخطاب الذي أعدته للذكري العشرين لاستقلال بنك إنجلترا (البنك المركزي في بريطانيا) عن الحكومة تماماً، واتخاذ مجلس إداراته قرار تحديد سعر الفائدة ولوائح التعامل المصرفي (الطريف أن الحكومة العمالية بزعامة توني بلير هي من اتخذ القرار عام 1997)، لتذكر الناس بفوائد النظام الرأسمالي، الذي أتاح للناس فرصة تملك العقار والتقدم.
المعضلة الأساسية التي لم تحلها الاشتراكية الماركسية، هي عجزها عن تأسيس أو إيجاد الأصول (assets) القابلة للاستثمار، أو معضلة المصادر التي انبثقت عنها وسائل الإنتاج، التي بلا الاستيلاء عليه لا يمكن تطبيق الاشتراكية، التي وعد بها زعيم المعارضة ملايين الشباب، بلا أرقام واقعية عن مصادر تمويل الإدارة البيروقراطية.
ولذا، فحكاية البقرتين مهمة كأساس فلسفي لفهم كيف أن الرأسمالية (حتى إشعار آخر) هي أفضل نمط اقتصادي عرفه التاريخ للتنمية الاقتصادية وتطوير المجتمع؛ فالراعي في الجزيرة النائية عاش حياته التي لم تتغير لعشر سنوات.
أما الهندي، فخرب بيته وأفلس لأنه ظل أسير معتقدات وثقافة فرضها عليه مجتمع مغلق حوّل أصلاً قابلاً للاستثمار إلى وسيلة استنزاف للقليل المدخر، وكان يمكن للشاب إما تجاهل معتقدات لا تطعم جائعاً أو تكسو عرياناً، أو الخروج عنها بمقايضة البقرتين إلى مكان خارج هذا المجتمع، وشراء سيارة مثلاً يعمل عليها كتاكسي.
النموذج السوفياتي، الذي يسعي إليه زعيم حزب العمال كوربين، بدوره أسير آيديولوجيا غير عملية، ثبت فشلها.
فما قدر عليه فلاح واحد في إنجلترا، بتشغيل أصل ثابت بقروض النمط الرأسمالي (جعلته يوظف مائتي شخص، ويساهم في الاقتصاد، بدفع الضرائب للخزانة وتوفير الغذاء للمستهلك)، استلزم أربع لجان وجيشاً من البيروقراطين حوّل الأصل الإنتاجي إلى استنزاف لمال الشعب الذي علقت باسمه يافطة «المالك» على حظيرة البقرتين.
لكن لماذا تحول ملايين الشباب من النمط الرأسمالي إلى اشتراكية غير واقعية يعد بها زعيم العمال؟
من ناحية، لم يعش الشباب نمط إدارة القطاع العام في السبعينات، والانتظار ثلاثة أشهر لتركيب تليفون مصلحة البريد المملوكة للدولة. ومن ناحية أخرى، ضاق الناس بجشع البنوك ومؤسسات قطاع خاص تدير المرافق والأسواق، واستنزافها للمستهلك (مثل رفع أثمان منتجات محلية، لا مستوردة، بحجة انخفاض ثمن الإسترليني).
لكن الإشكالية التي لم تحلها الرأسمالية بدورها أن تدخل الحكومة لتحديد الأسعار يناقض حرية السوق لأنه يخيف المستثمر، فيحرم المجتمع من تأسيس وسائل الإنتاج.