حنا صالح
صحافي وكاتب لبناني. رئيس تحرير جريدة «النداء» اليومية (1975 - 1985). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام راديو «صوت الشعب» (1986 - 1994). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام تلفزيون «الجديد» (1990 - 1994). مؤسس ومدير عام «دلتا برودكشن» لخدمات الأخبار والإنتاج المرئي (2006 - 2017). كاتب في «الشرق الأوسط».
TT

مقاومة ومقاولة

إنه النصف الثاني من سبتمبر (أيلول) عام 1982: أخبار لبنان وبيروت تحديداً تحتل مكانة بارزة. بشير الجميل يُقتل قبل تسلُّمه الرئاسة. مجزرة مخيفة في مخيم صبرا ضحاياها ألوف من الفلسطينيين اللاجئين واللبنانيين. جيش العدو الإسرائيلي يقتحم بيروت، التي استعصت عليه نحو 100 يوم، قبل تثبيت الخطة الأمنية التي قضت بتسليم أمنها للسلطة الشرعية. وسط هذا السواد في 16 سبتمبر يُطلق النداء: «إلى السلاح لتنظيم المقاومة الوطنية اللبنانية لتحرير بيروت من رجس الاحتلال وتحرير كل لبنان من أقصاه لأقصاه». ثلاثة أيام مرت ولم يحصل أي شيء، الصهاينة يتمركزون في كل مكان، دباباتهم أمسكت المفاصل الأساسية للعاصمة التي شُلّت فيها الحركة، وفي مكان ما كان جورج حاوي يضغط لوضع نداء 16 سبتمبر حيز التنفيذ.
فجر اليوم الرابع على نداء 16 سبتمبر حمل أنباء العملية الأولى: مقاومون استهدفوا بالقنابل اليدوية تجمعاً للمحتلين في الصنائع، قرب الإذاعة اللبنانية، وفي اليوم التالي أشعلت قذائف «آر بي جي» آليات المحتل في محطة أيوب، وبعدها كانت عملية «الويمبي» بالغة الجرأة: مقاوم يدخل سريعاً المقهى فيردي برصاصتين ضابطاً صهيونياً وزميلاً له وينسل خارجاً وقوة صهيونية في الشارع استبد بها الرعب. بعدها اختفت الدوريات الراجلة، واحتمى جنود شارون خلف حديد الآليات. وتتالت الضربات في كل أوقات النهار والليل، وكل البيوت فتحت أبوابها لتستقبل المقاومين، منهم من تخفى باستبدال ملابسه ومنهم من أودع سلاحه اضطراراً. هي بيروت لمن لا يعرفها، ناصرت قضايا الحق والعدل، وحضنت المبدعين والمضطهدين، فكيف بالمدافعين عنها من «جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية» (جمول)، التي أرغمت الصهاينة على الخروج خلال عشرة أيام، وهم يذيعون بمكبرات الصوت: يا أهالي بيروت لا تطلقوا علينا النار إننا نغادر مدينتكم.
قبل 35 سنة، نجح الرهان، وكان الحدث المدوي تحرير بيروت، ومعه تحولت العاصمة إلى المنطلق لتحرير بقية الأجزاء المحتلة. المتطوعون تدفقوا فَجَرَت عمليات التنظيم والتسليح، ومن بيروت انطلقوا باتجاه المناطق المحتلة، وما بين منتصف سبتمبر 1982 وأواخر أبريل (نيسان) 1985، تم تحرير نحو 75 في المائة من إجمالي الأراضي التي احتُلّت في لبنان. مئات ومئات العمليات نجحت وأكثر منها فشل، ومئات ومئات استُشهِدوا وأكثر منهم من وقع بالأسر، ويخطئ من يظن أن تلك المأثرة أنجزها المقاومون وحدهم، فالأهالي كانوا الدرع والحماية والعيون التي تستكشف. حاصروا المحتل بالمظاهرة والحجارة وبالزيت المغلي، ووفروا الماء والطعام والدفء لمئات الشباب الذين انطلقوا من جبال الشوف على الأقدام، باتجاه آخر نقطة حدودية، ينقلون على ظهورهم أطناناً من «تي إن تي» في رحلة تستغرق ستة أيام ذهاباً وإياباً يسيرون في الليل ويختفون في النهار، والتعليمات كانت تفادي الاشتباك مع العدو لأن الأولوية إيصال الحمولة، التي كانت ضرورية لتصنيع العبوات الناسفة التي طاردت العدو بتفجير آلياته.
كل المتوفَّر كان بسيطاً، الأسلحة المقننة كانت متواضعة، ومثلها الإمكانات والتجهيز، وهم في انتقالهم عبر جبال مسننة لا يستطيع الطير أن يحط عليها كانت تتقطع نعال أحذيتهم على ما يروي بالوقائع والأسماء أكثر من مقاوم، فيقول أبو عرب إن كل «من قطع تلك الجبال الوعرة يعرف حجم العذاب والتعب إلى الألم الناجم عن جراح أقدام خضّبها الدم... لكن ما منحنا القدرة والقوة كان الانتماء للوطن والإصرار على إنجاز التحرير». أحبوا وطنهم وأعطوا أغلى ما عندهم، وكانوا في وطنيتهم صورة عن نداء 16 سبتمبر، أتوا من كل جهات لبنان وطوائفه، وأحياناً كثيرة كانت انتماءاتهم السابقة متناقضة، لكن قضية التحرير من الاحتلال وحّدتهم، وأثبتوا أن الإيمان بلبنان أولاً وأخيراً هو المبتغى، فعجّل ذلك خطة إطباق حصار النظام السوري المحتل على «جمّول»، فيكتب المقاوم بشار حسين: «كان القلق والحذر والخوف يساور المقاومين حين يعبرون المناطق المحررة... حواجز (الغازية) و(زفتا) و(برج رحّال) و(دير انطار) كانت معابر خطرة... لم يكن الأمر خلافاً تفصيلياً أو أفضلية مرور، إنما كان على المرور من أصله». قرار النظام السوري حصر المقاومة بـ«حزب الله» تمّ قسرياً، فدفع المقاومون ثمنه اعتقالات واغتيالات وتهجيراً من مناطق هيمنة الثنائي الشيعي، وفقدت المقاومة التي احتكرها «حزب الله» بالتوافق مع دمشق، أبرز سماتها كمقاومة شعبية، والتحرير الذي كان متوقعاً أن ينجز في النصف الأول من التسعينات تأخر حتى عام ألفين.
لم يطلب مقاومو «جمّول» شيئاً، بل كانت لديهم قناعة بأن قيام دولة مستقلة غير مرتبطة أو تابعة هي المكافأة الكبرى، وأنه من حق اللبنانيين بعد ويلات الحرب الأهلية والاحتلال، أن تُطوى صفحة السلاح الذي يجب أن يُحصر بالجيش والأجهزة الأمنية، وأن يسود القانون فتسقط سلطات الفساد ويتمّ إرسال الفاسدين إلى القضاء... في عام ألفين تحقق التحرير، وكل الملابسات المرتبطة بقرار الصهاينة الانسحاب، وتشكيك الأسد - لحود بذلك، لا تغير شيئاً من دور المقاومين وبطولاتهم في الميدان، لكن تمسك «حزب الله» بسلاحه الفئوي شكّل أكبر خروج على الدولة والقانون، وبات واضحاً أن هذا السلاح الفئوي من شأنه أن ينهي لبنان لأنه ينسف المساواة بين اللبنانيين، وهو الوسيلة لاستتباع البلد.
احتفظوا بالتسمية: المقاومة... فكان التجرؤ على بيروت في السابع من مايو (أيار) «اليوم المجيد»، كتتمة لاستدعائهم حرب يوليو (تموز) وويلاتها على كل لبنان، فكانت تلك الحرب المنصة لقضم السلطة. السلاح الفئوي مكّنهم من احتلال موقع متقدم في تحالف أهل الحكم المتهم كله بفسادٍ غير مسبوق. ولم يعد مستغرباً منع اللبنانيين من الاحتفاء بانتصار جيشهم في حرب الجرود، بعدما كان الجيش قد مُنع من إنجاز انتصاره، لأنه في مكانٍ ما كانت جاهزة الصفقة المريبة مع إرهابيي «داعش»، التي منعت تقديم القتلة للقضاء وتبيان من هي هذه الـ«داعش» التي استخدمت أداةَ ترويع. وباتت من الأمور العادية حماية «صناعة الكبتاغون» وسوى ذلك من الممنوعات، أو لعب دور قمعي فيتم منع الموسيقى وحتى أغاني فيروز في الجامعة الوطنية، وتشطب الاحتفالات المدنية في القرى الخاضعة للهيمنة، ويُفرض لباسٌ معين ويتمُ إدخال تقاليد وأعراف غريبة حتى في الصلاة والسلام والحديث!!
لكن يبقى الأبشع، بجانب عرقلة قيام الدولة المستقلة، زج هذه «المقاومة» لبنان في أتون المقتلة السورية، ميليشيا «حزب الله» اجتاحت الحدود كأحد مكونات «الحرس الثوري» الإيراني، الساعي لإقامة إمبراطورية ساسانية جديدة، فقتلت وهجرت واقتلعت قرى وبلدات بوصفها قوة دفاع عن جبروت أبرز أنظمة الاستبداد والقمع، مؤسِّسةً بذلك لعقود من الكراهية والحقد بين شعبي سوريا ولبنان، وبالتزامن تحولت هذه «المقاومة» لأداة إثارة فتن وقلاقل في كلِّ البلدان العربية الصديقة.
البداية كانت جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية (جمّول) التي كسرت ظلام الاحتلال وأنجزت الكثير ورسمت طريق التحرير... وبعد ذلك ما نراه من سوريا إلى خلية العبدلي واليمن والبحرين.