إميل أمين
كاتب مصري
TT

كردستان... الاستقلال بأقل خسائر

هل يضحى الخامس والعشرين من سبتمبر (أيلول) الحالي موعداً لجرح جديد في جسد الدول العربية، عبر تصويت الأكراد في إقليم كردستان على إقامة دولتهم الكردية المستقلة، وانفصالها عن العراق الموحد؟
تبقى المسألة وجعاً مزمناً، إن انفصل الأكراد، وهو غالبا ما ستصوت عليه غالبيتهم، إن لم يكن معظمهم، بناء على أصول عرقية، ويزيد المعاناة أن أجبرت الدولة العراقية الأكراد على البقاء عنوة ضمن سياق مجتمعي، وصفه أحد نواب الأكراد في البرلمان العراقي بأنه لم يتسبب لهم إلا في الموت، بل إلى أبعد من ذلك.
لا يمكن للمرء أن ينكر وجود إشكالية حقيقية لدى الشعب الكردي، لم تبدأ فصولها أمس أو أول من أمس، إنما تعود إلى زمن الحرب العالمية الأولى، حينما أجبرت عرقية بعينها على التشتت عبر أكثر من دولة، ما بين العراق وإيران وتركيا وسوريا، وهي مأساة إنسانية دون أدنى شك.
خلال سنوات ديكتاتورية صدام حسين، تعمقت المأساة الكردية إلى أبعد حد ومد، من زمن «حملة الأنفال»، وصولاً إلى «قصف حلبجة» بالأسلحة الكيماوية عام 1988، ما خلق شعوراً جمعياً بحتمية الانفصال والذهاب بعيداً، بعد أن تدهور حال النسيج الاجتماعي العراقي، ولم يعد قادراً على احتواء الآخر المخالف عرقياً.
يستلفت الانتباه أن إقليم كردستان ربما أثبت نجاعة ما في الأعوام الأخيرة، لا سيما التي عاثت فيها «داعش» فساداً وقتلاً وحرقاً، لكل من يخالفها عقيدة أو آيديولوجية، سيما وأن الإقليم يعيش به عرب وتركمان، سريان وكلدان وآشوريين، وليس سراً أن الإقليم عينه، كان ملاذاً لكثير من الأقليات الأعوام الماضية، ما أعطاه مذاقاً خاصاً يشجع على الانفصال، بعيداً عن تناحرات الداخل العراقي.
أمر آخر يدفع دفعاً في طريق الاستقلال، يتصل بالدور الجيد جداً، إن جاز تقييمه، لقوات البيشمركة الكردية، تلك التي قاتلت نساء ورجالاً ضد عصابات «داعش»، وأبدت شجاعة فائقة، وساعدت بقدر كبير على دحر تلك الميليشيا الظلامية، ما أعطى مقاتليها وسياسييها على حد سواء جرأة على الأمل في الاستقلال، وقيام الدولة التي تجمع الأكراد تحت علمها، بعد طول معاناة حول العالم.
يعن لنا أن نتساءل: هل كان الاحتلال الأميركي للعراق الباب الذي سهل للأكراد الانفصال المقبل؟
يمكن القطع بأن ذلك كذلك بالفعل، فقد أقر دستور العراق الذي صاغه مكتب محاماة في نيويورك بعيد كل البعد عن فهم أحوال العراق وشعبه وتاريخه، صراعاته وانقساماته، آماله وآلامه، وعلى رأس خبرائه نوح فيلدمان، أقر بالحكم الذاتي لإقليم كردستان في شمال العراق، وأن يديره الأكراد أنفسهم، وقد نجا الإقليم بالفعل من حالة الفوضى التي عصفت بالعراق بعد سقوط نظام صدام حسين عام 2003، حيث أقاموا نوعاً من الحكم البرلماني، واقتصاداً لا يخلو من عيوب ومشكلات؛ لكنه عبر الأزمة، ولا يزال، بنجاح.
كارثية المشهد أن الاستفتاء المرتقب لا يقتصر فقط على المحافظات الثلاث التابعة للإقليم (دهوك وأربيل والسليمانية)، ولكن يمتد أيضاً إلى المناطق التي تسكنها غالبية كردية، وتلك التي حررتها قوات البيشمركة من تنظيم داعش.
يبشر السيد بارزاني بأن «دولة كردستان» ستكون دولة على أساس المواطنة والحرية، وستكون دولة مدنية غير قومية، وهو حديث جيد في ظاهره؛ لكن علامة الاستفهام: هل يمكن أن يكون ذلك كذلك حقاً وفعلاً وقولاً؟
ما ينتظر الأكراد حال قرروا الاستقلال مثير للقلق، بدءاً من الدولة المركزية التي ترى أنه انسلاخ غير دستوري، وهي موقنة بأن خسائرها من وراء النفط الموجود بكثرة في أراضي الأكراد، لا سيما كركوك، ستكون هائلة، مروراً بقوات «الحشد الشعبي» المدعومة إيرانياً التي تهدد بقتال الأكراد حال قرروا الانفصال، وصولاً إلى الدول المحيطة، مثل سوريا وتركيا وإيران، وجميعها تخشى قيام الأقليات فيها بالمطالبة بالانضمام إلى الدولة الوليدة.
قبل دولة كردستان، كانت دولة جنوب السودان، ويخشى المرء أن يكون بعض من الدول العربية ماض على هذا النحو، من جراء عدم المقدرة على التعايش معاً تحت راية المواطنة، وفي ظل سياقات الدولة المدنية الحديثة، ذات الدستور والمؤسسات التي تنظر للفرد بوصفه وحدة عضوية في بناء الأمم المتقدمة والمتصالحة مع ذاتها.
خيار قيام دولة كردستان المستقلة قريب جداً، والوقوف في مواجهته أو مجابهته سيكلف العراق والعراقيين حروباً جديدة ودماء أكثر، في وقت يحتاج فيه العراق إلى لملمة جراحات الماضي والحاضر.
هنا ربما يكون الاتفاق أفضل من الافتراق، بمعنى أن يصل العراق إلى صيغة سياسية ما مع الأكراد، صيغة تحتاج لإبداع من خارج صندوق الأفكار التقليدية، للحفاظ على حياة العراقيين والأكراد، ولضمان المصالح الاقتصادية والحياتية المشتركة، عوضاً عن فصل جديد من فصول الدم.