يوكن بيتنر
TT

موسم الانتخابات الألمانية والهدوء المريب

إذا لم تكن قد سمعت أي شيء عن الحملة الانتخابية في ألمانيا، فإن هذا لأنه بالفعل ليس هناك الكثير، رغم حقيقة أن الانتخابات الوطنية القادمة المقرر عقدها في 24 سبتمبر (أيلول) ستحدد عدة أمور مهمة، منها ما إذا كانت المستشارة أنجيلا ميركل ستستمر في منصبها.
نعم، نحن نتحدث هنا عن ذات ألمانيا التي استقبلت قرابة مليون لاجئ ومهاجر على امتداد العامين الماضيين، والتي قدمت إعانة مالية تقدر بمليارات اليوروهات لإنقاذ دول أوروبية مفلسة من عثرتها، واتخذت موقفاً حازماً إزاء روسيا في أعقاب ضمها القرم، والتي تغلق جميع منشآت إنتاج الطاقة النووية لديها وتتحول باتجاه «الطاقة الخضراء».
وجرى كل ذلك تحت سمع وبصر ميركل، وجميعها سياسات مثيرة للجدل داخل ألمانيا. ومع هذا، لا يبدو ثمة شك في أنها ستفوز في الانتخابات لتحظى بذلك بفترة رابعة في منصبها الذي تتقلده منذ عام 2005.
وتبعاً لنتائج استطلاعات الرأي، فإنه إذا أجريت الانتخابات الآن ستفوز ميركل على منافسها، ممثل الحزب الاشتراكي الديمقراطي مارتن شولز، بفارق 20 نقطة. وفي الوقت الراهن، يبدو أن التساؤل الوحيد يدور حول ما إذا كانت ميركل تسعى لبناء تحالف بين الحزب المسيحي الديمقراطي الذي تنتمي إليه والليبراليين أو حزب الخضر.
وفي الوقت الذي عقد كلا المرشحين مؤتمرات جماهيرية وألقيا خطبا، فإن جمهور الناخبين، بل ووسائل الإعلام الإخبارية لا تبدو مهتمة بالانتخابات المقبلة. ولا يعني ذلك أن الألمان غير مهتمين بالشأن السياسي بوجه عام، وإنما الواضح أنهم قبلوا بحقيقة أن السياسات الوطنية لبلادهم أصبحت رهينة لإجماع من تيار الوسط لا يترك لهم خياراً يذكر فيما يتعلق بصندوق الانتخابات.
وتسلط حالة الإذعان الجماعي تلك الضوء على مفارقتين على صلة بالصعيد السياسي الألماني في الوقت الراهن، حيث تتمثل المفارقة الأولى في أن الناخبين الألمان يتسمون بمزاج عام شديد المحافظة - بمعنى أنهم يخشون التغيير - لدرجة أنهم على وشك إعادة انتخاب مستشارة أقرت أكثر التغييرات راديكالية في تاريخ ألمانيا منذ سقوط سور برلين.
من ناحية أخرى، تمثلت الرسالة الانتخابية الرئيسية التي طرحتها ميركل خلال الفترة السابقة مباشرة للانتخابات الماضية عام 2013 في «أنتم تعرفونني». ومع هذا، لم يعرفها الألمان حقاً إلا بعدما تولت منصبها من جديد، فلم يكن أحد يعتقد أن هذه السيدة المتخصصة بمجال الفيزياء ذات الشخصية الحذرة والمتحفظة، ستفتح الباب في سبتمبر (أيلول) 2015 أمام شهور عدة من سيل عشوائي من الهجرة إلى داخل ألمانيا. وفي أعقاب ذلك، دارت رسالة ميركل الأساسية حول: «نحن سنتولى إدارة هذا الأمر»، دون طرح شرح لما تعنيه ألفاظ «نحن» و«إدارة» و«الأمر».
إذن، كيف يمكن تفسير هذه المعضلة؟ من جانبي، أعتقد أن الألمان ينظرون إلى الوضع من منظور نسبي، بمعنى أن الأرقام المروعة للحوادث التي عصفت بدول أخرى أضفت على ألمانيا تحت قيادة ميركل صورة وهمية من الاستقرار. جدير بالذكر أنه عام 2013، كانت القرم جزءاً لا خلاف حوله من أوكرانيا، وكانت بريطانيا عضواً راسخاً داخل الاتحاد الأوروبي، وكان الرئيس الأميركي عضواً لا يرقى إليه الشك في عصبة قادة الديمقراطيات.
من جانبهم، يدرك الألمان أمرين على الأقل: أن العالم أصبح أكثر عرضة للأزمات، وأن ميركل تمكنت من قيادة دفة البلاد عبر هذه الأزمات واجتيازها بسلام، وهم محقون في هذين الأمرين. في الواقع، في خضم بحر التغيير - رغم أنها كانت من العوامل التي تصب فيه - بدت ميركل صخرة قوية ثابتة. في المقابل، فإن وضع شولز، الذي لم يسبق له قط تولي منصب حكومي، أمام دونالد ترمب أو فلاديمير بوتين أو رجب طيب إردوغان سينطوي على مخاطرة بالغة.
وتكمن مفارقة ثانية في أن أهم قضية سياسية لا تجري مناقشتها علانية من جانب الأحزاب السياسية الأهم. فقط على الصعيد الخاص بعيداً عن العلن، يتحدث أعضاء الحزبين الرئيسيين بالبلاد حول ما تعنيه في واقع الأمر «نحن»، وذلك الأمر الذي ستجري «إدارته».
على سبيل المثال: كيف يمكنك ضمان أن مهاجرين مسلمين من أفغانستان أو العراق أو شمال أفريقيا سيتقبلون على نحو قاطع بالقيم المجتمعية الألمانية؟ وهل سيكون بمقدور المهاجرين الاندماج في سوق العمل الألمانية التي تتطلب مهارات رفيعة من المشاركين بها؟ وهل باستطاعة السلطات الألمانية امتلاك الشجاعة اللازمة لترحيل مئات الآلاف ممن رفضت طلبات اللجوء التي تقدموا بها؟
على الصعيد المعلن، لا يتناول أي من الديمقراطيين المسيحيين أو الديمقراطيين الاشتراكيين هذه القضايا، لخشيتهم من أن يفتحوا بذلك نقاشاً قد يثير رد فعل فوري معارض لهم، مع تساؤل الناخبين حول السبب وراء سماحهم بدخول هذه الأعداد الضخمة من المهاجرين في المقام الأول. والاحتمال الأكبر أن ينجم عن ذلك انتخاب حزب مناهض للهجرة وللمؤسسة السياسية القائمة، حزب «البديل من أجل ألمانيا»، للبرلمان ليصبح بذلك ربما ثالث أكبر حزب بالبلاد. (تشير استطلاعات الرأي إلى أنه سيحصل على ما بين 8 في المائة و10 في المائة من الأصوات، في وقت لا يحتاج سوى إلى 5 في المائة لضمان دخول البرلمان).
ومن المعتقد أن أعضاء البرلمان عن «البديل من أجل ألمانيا» سيثيرون الحرج للأحزاب الأخرى أحياناً، لكنهم أيضاً سيضخون روحاً جديدة في البرلمان. ونظراً لأنه بغض النظر عما إذا اختارت ميركل التحالف مع حزب الخضر أو الليبراليين، فإن حزبها سيحرص بالتأكيد على استعادة الأصوات التي خسرها لصالح اليمين، الأمر الذي سيفرض عليه إبداء مزيد من الانفتاح على الناخبين المعاديين للهجرة وأصحاب النزعات القومية، ما سيجذب الحزب بعيداً بعض الشيء عن الوسط.
في المقابل، وباعتباره حزب المعارضة الرئيس، سيشعر الديمقراطيون الاشتراكيون بإغراء تجاه تشديد مواقفهم اليسارية، لتسليط الضوء على التباين بين مواقفهم وتوجهات ميركل.
بمعنى آخر، من المحتمل أن تشهد ألمانيا إحياء للاختلافات السياسية، وهو أمر ليس بالسيئ. على العكس، تعزيز ديمقراطية ألمانيا الفاترة يأتي في الوقت المناسب لبلد تتمثل مهمته الرئيسية في الفترة المقبلة في ضمان وتعزيز الديمقراطيات بباقي أرجاء العالم.
*خدمة: «نيويورك تايمز»