يوسف الديني
باحث سعودي ومستشار فكري. درس العلوم السياسية والإسلاميات التطبيقية، وعمل بالصحافة منذ عام 1999، وكاتب رأي في «الشرق الأوسط» منذ 2005، له كتب وبحوث ناقدة لجذور الإرهاب والتطرف والحركات والمنظمات الإرهابية في المنطقة. كتب عشرات الأبحاث المحكمة لمراكز بحثية دولية، ونشرت في كتب عن الإسلام السياسي والحاكمية والتطرف ومعضلة الإرهاب، وساهم بشكل فعال في العديد من المؤتمرات حول العالم.
TT

ديمقراطيات الرصاص.. الحالة الليبية كنذير عريان!

ما يحدث في ليبيا محير جدا على المستوى السياسي، لكنه يعطينا إشارات واضحة لمستقبل النزاع الأهلي في بلدان اصطبغت بالسكون السياسي والمكون المتشابه دون إثنيات أو أحزاب سياسية فاعلة أو حتى ثقافة تعددية، ليس على المستوى السياسي فحسب، بل حتى في المخرجات الثقافية والفنية، مع وفرة هائلة في الموارد وديمغرافية محدودة. لكنه في النهاية، رغم الفرصة الهائلة للتغيير بعد سقوط نظام الديكتاتور، أنتج ديمقراطية رصاص، وأصبحت الميليشيا خيارا سياسيا تعدديا تتحالف مع الأحزاب وتشركه الحكومة في أدائها، بل وتتضامن معه قوى عسكرية.
ما يحدث في ليبيا الآن لم يعرفه بلد عربي من قبل، ليس لحساب أعداد الضحايا وحجم الفوضى، بل لحالة السيولة السياسية، حتى بات من الصعب التمييز من ضد من؟ حظر جوي وحالة طوارئ وميليشيات مناطقية موزعة على مدن حساسة، في مقابل محاولات انقلاب وانقلاب على الانقلاب وأجواء من التطرف المسلح المجاني لصالح المزيد من الفوضى، التي من المرجح أن تزداد متى ما دخلت الأطراف الخارجية على الخط.
الحرب على شرعية «الديمقراطية» بالميليشيات والسلاح حدث جديد وامتياز عربي ما بعد الربيع. لك أن تتخيل حجم الدهشة وأنا أتابع بيانات القوى الفاعلة على الأرض تجاه ما يحدث، حيث كتائب، كـ«القعقاع» والقوات الخاصة، تقول إنها الممثل الشرعي للديمقراطية والوطنية الليبية، بينما خرج قادة مرحلة الجهاد الأفغاني، وقد كان لليبيين دور بارز فيها، من صمتهم ليعلنوا بعث «الجماعة الإسلامية المقاتلة» من جديد.
بعيدا عن الانقلاب أو ضبط ما يجري أو تصحيح لثورة غاب أبناؤها مبكرا تاركين المشهد لشياطينها، فإن المقلق هو اعتبار فرض القوة بالسلاح جزءا من رعاية العملية الديمقراطية كما هو الحال في تبرير أيضا عمليات الاغتيال وفرض الرأي بقوة السلاح بدوافع تقترب من الشخصية، فهو أمر ينبئ عن واقع جديد قد نشهده في مواقع أخرى، هذا الواقع هو تحول المكونات السياسية السلمية إلى مشرِّعة وممارِسة للعمل العنفي المسلح، أو متحالِفة مع ميليشيات لها تاريخ طويل في هذا السياق.
هذا التحول العكسي، حيث كنا لسنوات طويلة نشهد ما قيل آنذاك عن تحولات في أحزاب جهادية ومجموعات عنفية إلى العمل السلمي فيما عرف بـ«المراجعات» وفي بلدان كثيرة، نشهد الآن في ليبيا انحسار العمل السلمي لصالح فرض الرأي بقوة السلاح ولنفس الدافع «الحفاظ على الشرعية الديمقراطية»، وهو مؤشر على انفصال في الهوية والتكوين والعمل والممارسة بين الحكومة الليبية والمؤسسة العسكرية، وهي نقطة تفرد ثانية لصالح الحالة الليبية، التي رغم انحسار الإعلام عنها بشكل تفصيلي، فإنها التمثيل الأمين والحقيقي لبعض أزمات استنبات الديمقراطية بالقوة فيما عرف بـ«الربيع العربي»، التي تعد «تونس» استثناء متفهما له، ليس بسبب الأحزاب أو المكونات السياسية أو تنازلات حزب النهضة أو مقارعة اليسار لهم، بل يتمثل في الإرث البورقيبي الذي ما زال يشكل هوية تونس الحديثة التي لا تتشابه مع حالة عربية أخرى أو تقترب منها.
الغريب في المشهد الليبي أن المؤسسة العسكرية لا تبدو على قلب رجل واحدة، وذلك ليس مرده لاختلاف الرؤى، بل لاختلاف المصالح كما تشير إليه بعض التحالفات المتهورة بين عناصر في المؤسسة العسكرية وميليشيات متطرفة ترى في تحركها المسلح، (القتل والتدمير اليومي)، لصالح شخصيات عسكرية أو سياسية ما جزءا من رد الفعل وتضامنا في الموقع السياسي.
وإذا كان صعود فكر «التطرف المسلح» الذي تعبر عنه أطراف كثيرة في معادلات الربيع العربي متوقعا له أن يخلف فشل التوافقية السياسية، لكن أن يصبح الإرهاب سلاحا سياسيا لتغيير الواقع، فهذا امتياز جديد على طريقة الخوارج القدماء في الاحتساب على الأداء السياسي، وهو ما يعني أن سقوط «المستبد» قد يخلف الآلاف من المستبدين الذين لم يستطيعوا مقارعته، وهو ما يعني بلغة أخرى إعادة قراءة الحالة العربية خارج مثاليات وثنائيات النظام- المعارضة، الشعب- الحكومة... إلخ، وأعتقد، لا على سبيل التشاؤم، أن الخروج من ثقافة «الدم» المتأصلة في الحالة العربية، التي سيعززها بقوة صعود موجات التطرف، بحاجة الآن إلى عقود من العمل الدؤوب. الحالة الليبية هي النذير العريان لما ستؤول إليه الأوضاع بعد الربيع العربي إن لم يحدث استثناء وعمل دؤوب واع لمخاطر الأوضاع الآن.

[email protected]