عدنان حسين
* كاتب عراقي
TT

حرب العراق الموازية

لم تنتهِ بعد حرب العراق مع تنظيم داعش، بيد أنها دخلت فصلها الأخير الشهر الماضي بتحرير مدينة الموصل التي أعلنها التنظيم الإرهابي عاصمة له، ومن المرجّح أن يستغرق تحرير ما تبقّى من مناطق في أيدي التنظيم وقتاً يُمكن أن يمتدّ حتى العام المقبل. في موازاة الفصل الأخير هذا انطلقت من بغداد حرب أخرى مع تنظيم اخترق جهاز الدولة العراقية بالطول والعرض، مُرسّخاً جذوره فيها ومُستنزفاً قواها من الداخل على مدى 13 سنة.
هذه الحرب الموازية يراها رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي أخطر من الحرب مع «داعش». في (مارس) الماضي قال أمام مؤتمر للجامعة الأميركية في السليمانية (كردستان العراق) إن «الفساد الموجود في المؤسسات العراقية أخطر من التنظيمات الإرهابية على البلاد»، داعياً «الساسة العراقيين إلى تفضيل مصلحة العراق على المصلحة الحزبية»، وهذا تلميح في مرتبة التصريح بأن الفساد يحظى برعاية رؤوس كبيرة في الدولة العراقية.
على جبهة هذه الحرب، فعّلت سلطات فرض القانون في الأشهر الأخيرة مذكرات اعتقال في حقّ كثير من كبار المسؤولين التنفيذيين الذين اتّهمتهم هيئة النزاهة بالفساد الإداري والمالي وأثبتت محكمة النزاهة صحة الاتهامات، بينهم محافظون ورؤساء مؤسسات حكومية، وهم جميعاً ممّنْ عُيّنوا في مناصبهم على وفق نظام المحاصصة الذي توافقت عليه القوى السياسية المتنفّذة (الشيعية والسنية والكردية) بديلاً عن دستور 2005، وأغلبهم من قيادات الأحزاب الإسلامية (حزب الدعوة، المجلس الأعلى الإسلامي، الحزب الإسلامي).
سنوياً يحتلّ العراق مرتبة متقدّمة بين الدول الأكثر فساداً في تقارير منظمة الشفافية الدولية. وإلى الفساد الإداري والمالي يُردُّ الانكفاء الخطير في كفاءة الاقتصاد الوطني غير النفطي وارتفاع مستويات البطالة والفقر (أكثر من 25 في المائة لكل منهما)، وانهيار نظام الخدمات العامة الأساس، كالكهرباء والماء والصرف الصحي والصحة والتعليم والنقل، فالعراقيون على سبيل المثال لا يحصلون على نصفهم حاجتهم من الكهرباء رغم إنفاق نحو 40 مليار دولار عليها، ويتبيّن الآن أن أكثر من نصفها قد تسرّب إلى جيوب الفاسدين.
وتُمارس عمليات الفساد على أعلى المستويات، ففي تقريرها نصف السنوي المُعلن مطلع الشهر الحالي، كشفت هيئة النزاهة عن أنها أصدرت في الأشهر الستة الأولى من العام الحالي 880 أمر قبض في قضايا فساد بينها 13 أمراً تخصّ وزراء ومن هم بدرجتهم، فيما أصدرت 2923 أمر استقدام للتحقيق في قضايا فساد إداري ومالي، منها 28 أمراً تخصّ وزراء ومن هم بدرجتهم.
الحرب الموازية على الفساد التي اشتعلت جبهتها أخيراً كان العبادي قد تعهّد بها في برنامج حكومته المُقدّم في سبتمبر (أيلول) 2014، وكرّر تعهّده في حزمة الإصلاحات التي أعلنها في أغسطس (آب) 2015 بعد اندلاع أكبر حركة احتجاجية في تاريخ العراق، وهي المتواصلة حتى اليوم، وكان من شعاراتها الرئيسية مكافحة الفساد وملاحقة الفاسدين والمُفسدين واستعادة الأموال المُستحوذ عليها.
كان النائب والوزير الراحل أحمد الجلبي، الذي يُعدّ عراب عملية التغيير التي أطاحت نظام صدام حسين بالقوة العسكرية عام 2003، من أبرز المهتّمين بمكافحة الفساد، وقد مكّنته المناصب التي احتلّها، نائباً لرئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية والمالية ثم عضواً ورئيساً للجنة المالية في البرلمان، من أن يكون على بيّنة تامّة بحجم الفساد وتفاصيله الكثيرة. كان دائم التنبيه إلى أن المال العام يتعرّض إلى عملية نهب لا مثيل لها في تاريخ العراق، وقبل وفاته المفاجئة في نوفمبر (تشرين الثاني) 2015 قدّم إلى هيئة النزاهة والسلطة القضائية وغيرهما، بصفته رئيساً للجنة المالية البرلمانية، وثائق تُظهر عمليات رشى وغسل أموال بمئات مليارات الدولارات، هي حصيلة «كوميشينات» عن عقود مع شركات أجنبية وعمليات تهريب عملة مشتراة من نافذة البنك المركزي لتمويل مستوردات وهمية. وأوضحت الوثائق التي نشرت بعضها صحيفة «المدى» أن الشركات الوهمية التي تمّت باسمها العقود والصفقات تابعة في الغالب لمسؤولين كبار في الحكومة والبرلمان. ولاحقاً ظهر أن هذه العمليات تنفّذها في المجمل هيئات غير شرعية تُعرف بـ«اللجان الاقتصادية» تابعة للأحزاب والكتل المتنفّذة في الحكومة والبرلمان.
الكلام الذي قاله العبادي في السليمانية يعكس إدراكاً بأنه لا سبيل لقهر الإرهاب في نهاية المطاف إلا ببناء دولة قوية، وهذه لا تكون في بلد مثل العراق الغارق إلى الهامة في مستنقع الفساد، وهذا ما يفسّر تنكّبه السلاح لمكافحة الفساد في حملة يسعى الآن لدعمها بقانون تعدّه حكومته بشأن الكسب غير المشروع سيُرفع إلى مجلس النواب لتشريعه.
لن تكون مهمة العبادي على هذا الصعيد سهلة. إنها أصعب من حرب تحرير الموصل، فالحرب على الفساد لها أعداء كثيرون بين الطبقة السياسية المتنفّذة المتورطة في الفساد. التقرير نصف السنوي لهيئة النزاهة أظهر أن 273 من أعضاء مجلس النواب البالغ عددهم 328 لم يُفصحوا عن ذممهم المالية لهذا العام حتى الآن، فيما القانون يُلزمهم بفعل ذلك قبل انتهاء يناير (كانون الثاني)، وتقرير الهيئة الخاص بعام 2016 أوضح أن 216 من هؤلاء الأعضاء لم يفصحوا عن ذممهم أبداً.
وكما أن العراقيين لديهم كل الأسباب لدعم الحرب الموازية ضد الفساد، فإن العبادي لديه كل الأسباب لرفع وتيرتها، فالنجاح في ميدانها سيعادل نجاحه في الحرب ضد «داعش»، وكلا النجاحين يعزّز كثيراً من رصيده للانتخابات العامة اللازم عقدها في العام المقبل، مما يؤهله على الأرجح لولاية ثانية لا بد أنّه يتطلّع إليها.