فهد سليمان الشقيران
كاتب وباحث سعودي
TT

ظاهرة العنف وتحولات «قواعد الاشتباك»

بعد مغيب شمس يوم الخامس والعشرين من يونيو (حزيران) 1996، يشق صهريج محمل بالمتفجرات شوارع الخبر... الهدف مجمع سكني يؤوي عسكريين أميركيين. سيارة الدعم اللوجيستي المصاحبة للصهريج من نوع «كابريس»، وقبيل تنفيذ العملية، ينزل منها شخصان؛ إذ لفت نظرهما وجود عائلة بالحديقة المجاورة. يروي لي صديق أن أقرباءه كانوا مع أطفالهم يلهون هناك، وقد كانت مهمة الرجلين إجلاء العائلات، وبعد أن انفضّ الجمع دوّى التفجير مودياً بحياة 19 ضحية وخلّف قرابة الخمسمائة جريح كلهم من الأميركيين. تلك كانت عملية تنظيم «حزب الله الحجاز» الشهيرة. على الضفّة الأخرى، في وثائق أسامة بن لادن أنه يحذّر أتباعه في «تنظيم القاعدة بالعراق» من استهداف المساجد، والحسينيات، والمزارات. هاتان القصتان توضحان مسألة مهمة، وهي تطور نظم «قواعد الاشتباك» لدى الجماعات المسلحة، بالطبع «حزب الله الحجاز» لم يُبقِ على قواعده الأولى حيث إجلاء المجاورين لهدف التفجير، ولا تنظيم القاعدة بقي على أسسه النظرية من عدم استهداف الأسواق والمعابد؛ بل تطورت العمليات القتالية لما هو أشرس.
رفض أبو مصعب الزرقاوي تعاليم زعيمه أسامة، وكانت ممارساته هي أساس تكوّن دموية «داعش»؛ إذ كان «تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين» هو الرحم الأساسي الذي تخلق به. القصّة أن التنظيمات الإرهابية تتفكك أسسها ونظمها بالتقادم، فتفقد هيكليتها وهرميتها، وتتبخر أهدافها، وتضعف آيديولوجيتها. فإرهاب التنظيمات الشيعية لم يعد منطلقاً من التنظيمات الهيكلية، بل أصبح يتوالد بشكل مضاعف من الشبكات الإجرامية المنسجمة مع الشعارات السياسية، والقشور الدينية، والأدبيات الخمينية السطحية. هذا الاستنتاج يتضح بشكلٍ أكبر في مواجهات العوّامية الحالية، فعلى مستوى السلاح الذي بين أيديهم، فإن تخزينه تم على مراحل، بدأت بعد حرب الخليج، ومن ثم تم تخزين أسلحة يجري تهريبها من الدول المجاورة وذلك لأغراض إجرامية بحتة ضمن شبكة مصالح تتغذى على الجريمة بكل أشكالها. والجماعات الإرهابية الشيعية الحالية مزيج من الخبرات الإجرامية والآيديولوجيا الدينية السطحية، فهي لم تكن نتاج المد الصحوي الشيعي. بمعنى آخر، هي ليست ذات امتداد ديني وآيديولوجي وعقائدي مؤسس، كما لدى «حزب الله» وتنظيم القاعدة، بل حالة الجماعات الإرهابية الشيعية أقرب ما تكون لتنظيم داعش، هذا مع المدد الأمني والغطاء السياسي الذي تؤمنه تلك التنظيمات بعضها لبعض في ساحات المواجهة، وعمليات القتال.
هذه الظاهرة الإرهابية كانت مؤسسة في التنظيمات المتطرفة التي تخلقت ضمن النظرية الشيعية، وذلك من خلال تراتبية الرموز والأتباع لدى «الصحوة الشيعية»، وعلى أساسها نشأ «حزب الله الحجاز»، وانطلق مثله مثل تنظيم القاعدة السنّي ضمن تأسيس ومحاولة شرعنة فقهية للأفكار المتطرفة، وللعمليات الإرهابية، فالخلايا موضع الهجوم الحالي جاء معظم أعضائها من إرث إجرامي بحت، ولديهم سوابق أخلاقية، أو ضمن شبكات المخدرات، وتجارة السلاح، ولكنهم مثل «داعش»؛ استخدموا الشعار الديني، وانطلقوا، بلا مشروع متخيل، وإنما الهدف هو القتال ضمن هوس شخصي وتعبئة خطابية شعاراتية غير فقهية.
من يعرف أدبيات «القاعدة» و«حزب الله» وحركة حماس مثلاً، يجد صيغ التجنيد مختلفة؛ فالإرهابي يكون قد مر بمراحل تأسيسية كبرى منذ الصغر، وذلك ضمن برامج وورشات وأدبيات ومحفوظات، ضمن إشراف الزعيم الذي يوزع المسؤوليات ويعين الكوادر، ولكن في الحالتين المعاصرتين؛ (داعش السنّي)، و(داعش الشيعي)، تنعدم الإدارة المركزية في تسيير العمليات، فهو ضرب منفلت بكل اتجاه... ينعدم الحد الأدنى من قواعد الاشتباك، ولا تعثر بوصفك باحثاً على أدبيات وأبحاث وكتب وسجالات كما كانت الحال لدى تنظيم القاعدة أو «أحزاب الله» الشيعية بلبنان والكويت والسعودية، وهذا مؤشر على أن الخلية الإرهابية بشكلها الحالي طغى فيها العملي على النظري، فجذبت عصابات الإجرام أضعاف ما جذبت من شبيبة أحلام الخلاص، وأناشيد الحق، وشعارات الطغيان... هذا ما تخبرنا به نتائج الحرب على الإرهابيين المخربين في العوامية.