جمعة بوكليب
كاتب ليبي؛ صحافي وقاص وروائي ومترجم. نشر مقالاته وقصصه القصيرة في الصحف الليبية والعربية منذ منتصف السبعينات. صدرت له مؤلفات عدة؛ في القصة القصيرة والمقالة، ورواية واحدة. عمل مستشاراً إعلامياً بالسفارة الليبية في لندن.
TT

رسالة الرئيس بوتين إلى أوروبا

استمع إلى المقالة

عند المقارنة بنظيره الأميركي دونالد ترمب، يعدُّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قليل التصريحات لوسائل الإعلام، ولا يتعامل مع شبكات التواصل الاجتماعي على الإنترنت. وربما للسبب ذاته، حين يتحدث الرئيس بوتين يضطر قادة العالم للإصغاء، وينشط المحللون والمعلقون في وسائل الإعلام الدولية في التحليل والتفسير. وعلى ما يبدو، ينتمي الرئيس بوتين إلى فئة من القادة الروس السابقين ممن عُرفوا بقلة الكلام إعلامياً.

تحدَّث الرئيس الروسي بوتين مؤخراً، وتحديداً قبل وقت قصير من لقائه بالمبعوثين الأميركيين للرئيس ترمب للتباحث حول إمكانية صياغة اتفاق سلام بين روسيا وأوكرانيا.

على شاشات القنوات التلفزيونية، ظهر الرئيس بوتين خلال لقائه بصحافيين بوجه مختلف، إذ على غير العادة بدا منبسط الملامح، وهو يرد على أسئلتهم، ويدلي ربما بأخطر تهديد يمكن أن يوجهه رئيس دولة نووية إلى خصومه في دول أوروبا. باختصار، نفى الرئيس بوتين أن تكون بلاده تخطط لحرب ضد أوروبا. مؤكداً أنها ستكون مستعدة إذا كانت أوروبا تريدها. ووصف نوع الحرب بأنها لن تكون مثل تلك التي في أوكرانيا، التي حسب وصفه لا تختلف عن عملية جراحية محدودة. وأوضح أن الحرب ضد أوروبا ستكون مختلفة وسريعة، وربما لن نجد حتى من نتفاوض معه.

الرسالة البوتينية لا تحتاج إلى عناء في البحث عن تفسير وقراءات لا ضرورة لها بين السطور. فهي أوضح من الوضوح. ولا أظنّها ستمر مرور الكرام على قادة دول أوروبا.

اللافت أن الرئيس بوتين حافظ على هدوئه وانبساط ملامحه طوال وجوده أمام الصحافيين. ذلك الهدوء -لمن يعرف- قد يُفسَّر على أنّه جزءٌ من استراتيجية نفسية تعزِّز من مصداقية التهديد، وتهدف إلى أن تُربك قادة أوروبا، وتضاعف من جدِّيته، وتحمل تلميحاً صريحاً باللجوء إلى الخيار النووي، وتجعله قراراً استراتيجياً مدروساً قائماً على حسابات لا مكان فيها للعاطفة والانفعال.

المباحثات التي أجراها الرئيس الروسي في موسكو مع المبعوثين الشخصيين للرئيس ترمب استغرقت خمس ساعات، من دون الوصول إلى اتفاق، حسب التقارير الإعلامية.

غادر المبعوثان الأميركيان موسكو للقاء الرئيس الأوكراني لإطلاعه على ما دار في الاجتماع. وتبيّن فيما بعد أنهما ألغيا زيارة كانت مقررة لبروكسيل للقائه، على أن يتم اللقاء في كاليفورنيا، ثم تقرر إلغاء اللقاء. وعاد الرئيس الأوكراني إلى بلاده بخفيّ حنين. الإلغاء كان لغاية في نفس يعقوب، وليس صعباً إدراكها للمتتبع.

التسريبات الأوّلية إعلامياً تؤكد رفض موسكو للتعديلات الأوروبية التي أُدخلت على المسوَّدة الأميركية-الروسية. هذا يُفضي بالمفاوضات إلى العودة إلى المربع الأول، إذ إن الهوَّة بين ما يريده الطرفان من اتفاق السلام المؤمَّل لا يمكن تجسيرها، وأن التعنت الروسي، حسب وصف الإعلام الغربي، يتصاعد بتزايد تقدم القوات الروسية في جبهات المعارك داخل الأراضي الأوكرانية.

ليس بمقدور أحد التكهن بالاتجاه المحتمل للتطورات. لكن من المؤكد أن تعريف مفهوم السلام في روسيا لا يتوافق مع تعريف مفهوم السلام في أوكرانيا ودول الغرب الحليفة. ذلك أن موسكو -يقول الأوكرانيون والغربيون- تريد استسلاماً أوكرانياً وليس سلاماً، وأن ما أفلحت في الاستحواذ عليه في محاور القتال طيلة السنوات الماضية من الحرب لن تقبل بالتنازل عنه في أي مفاوضات. كما أن الدعم الأوروبي لأوكرانيا ليس بمقدوره تغيير تلك القناعة الروسية، طالما فشلت أوكرانيا وأوروبا في تغيير موقف الرئيس ترمب وإقناعه باتخاذ موقف مساند لهم ضد روسيا، وهو ما يبدو مستبعداً.

الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي يجد نفسه في وضعية سياسية وعسكرية لا يُحسد عليها. فهو حالياً بين فكّي كماشة. من الناحية السياسية، يجد نفسه في قلب فضيحة فساد مالي كبير على أعلى مستوى في حكومته، طالت كبير مستشاريه ورئيس فريق المفاوضين، وهزت من مكانته دولياً، خصوصاً في دول الغرب الحليفة، كما منحت أحزاب المعارضة فرصة للظهور والتعبير عن السخط الشعبي. التقارير الإعلامية قالت إن تحقيقات جهاز مكافحة الفساد الأوكراني أبانت أن المتورطين في الفضيحة كانوا يؤكدون لبعضهم بعضاً في محادثات هاتفية أنه لا ضرورة لإِنفاق أموال في بناء تحصينات في حرب خاسرة!

هناك أيضاً الأخبار المتوالية من جبهات المعارك بما تحمله من بيانات يومية عن تقدم القوات الروسية على كل المحاور، وتوالي سقوط القرى والبلدات الأوكرانية. القوة الوحيدة القادرة على تغيير وضع الكفتين في ميزان الصراع الأوكراني - الروسي ممثلة في واشنطن، وهي إلى حد الآن تميل بوضوح إلى ترجيح الكفة الروسية على حساب أوكرانيا وحلفائها الأوروبيين، بهدف الإسراع بإنهاء الحرب، وإغلاق الملف الأوكراني إلى الأبد.