د. سعود بن عبد الله العماري
محامٍ دولي
TT

استمرار تطبيق قانون «جاستا» يضرُّ بأميركا

استمع إلى المقالة

أثار قرار القاضي الفيدرالي الأميركي جورج دانيلز، الذي صدر في الرابع من سبتمبر (أيلول) 2025م، جدلاً جديداً حول مبدأ الحصانة السيادية وأثر التشريعات الأميركية في النظام الدولي. وقد اقتصر القرار على مسألة الاختصاص القضائي للمحكمة الأميركية، دون أن يتناول موضوع الدعوى المرفوعة ضد المملكة العربية السعودية على خلفية أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م. ومن المهم الإشارة إلى أن هذا القرار لم يكن وليد اجتهاد قضائي مستقل، كما لم يستند إلى أدلة جديدة، بل جاء نتيجة مباشرة لتطبيق قانون العدالة ضد رعاة الإرهاب (جاستا – JASTA)، الذي أقرّه الكونغرس الأميركي عام 2016م، رغم استخدام الرئيس الأميركي آنذاك باراك أوباما حق النقض (الفيتو) لرفضه.

الجدير بالذكر أن مبدأ الحصانة السيادية ظل، منذ قرونٍ، يُشكّل ركيزة من ركائز القانون الدولي؛ لأنه يضمن المساواة بين الدول، ويحمي مكانة الدول وسيادتها وعلاقاتها الدبلوماسية من التأثر بالتيارات والخلافات السياسية. وقد جعل قانون الحصانات السيادية الأجنبية (FSIA) الأميركي، الصادر في عام 1976م، هذا المبدأ جزءاً مهماً من النظام القضائي الأميركي، حيث قضى بأنه لا يجوز إخضاع الدول ذات السيادة للمقاضاة في المحاكم الأميركية دون موافقتها.

ومن المفارقات أن القاضي دانيلز نفسه كان قد رفض الدعوى ذاتها التي رفعها المدّعون أنفسهم ضد المملكة العربية السعودية عام 2015م، حيث أصدر حينها قراراً بعدم اختصاص المحكمة الأمريكية، مؤكّداً تمتع المملكة بالحصانة السيادية، لكن إقرار قانون «جاستا» غيّر الوضع القانوني الراسخ؛ إذ سمح للمحاكم الأميركية بالنظر في دعاوى ضد حكومات أجنبية بزعم دعم الإرهاب، حتى إذا لم تكن هذه الدول مصنفة «راعية للإرهاب». وهكذا انتقل القضاء الأميركي من الالتزام بالقانون الدولي إلى السماح بالنظر في دعاوى يغلب عليها الطابع السياسي.

ومع ذلك، فقد وضع القانون الأميركي سقفاً عالياً للإثبات في القضايا التي تُرفع في هذا الإطار؛ حيث اشترط المشرّع الأميركي أن يثبت المدّعون أن موظفاً رسمياً، من موظفي الدولة الأجنبية المُدعى عليها، قدّم «مساعدة جوهرية»، وبصورة متعمدة ومقصودة، لمرتكبي عمل إرهابي، أو أنه تآمر معهم، شريطة أن تقع المساعدة، التي يُدَّعى أنه قدمها، في إطار مهماته الرسمية. كما استبعد النص، صراحة، أي مسؤولية قائمة على مجرد الإهمال أو التقصير. وبذلك، فإن معظم القضايا المرفوعة بموجب قانون «جاستا»، تفتقر، في جوهرها، إلى دليل قوي يدعمها أمام القضاء.

غير أن المشهد لم يتوقف عند هذا الحد؛ فقد بدأت، في الكونغرس الأميركي، محاولات جديدة لتعديل القانون وتوسيع نطاقه، حيث قدّم بعض رعاة القانون الأصلي، ومنهم السيناتور تشاك غراسلي، والسيناتور جون كورنين، مقترحات تسمح للمحاكم الأميركية بالاستناد إلى «القرائن» أو «الأدلة الظرفية» بدلاً من اشتراط الإثباتات والأدلة القاطعة. هذا، بالإضافة إلى إدخال كيانات، غير الدول، ضمن دائرة المسؤولية، مثل؛ الشركات والوكالات، وتوسيع نطاق الاختصاص القضائي الأميركي ليطول أفعالاً تقع خارج الحدود الإقليمية للولايات المتحدة. ولا شك أن إقرار هذه التوجهات، إن أُقرت، لن يُهدد مبدأ الحصانة السيادية وحده، بل سيفتح الباب، أيضاً، أمام تعريض الأصول السيادية للدول، بما فيها الاحتياطيات المصرفية والممتلكات، لخطر الحجز والمصادرة، وهو ما يشكل انتهاكاً صريحاً لمبادئ القانون الدولي، ولقاعدة المساواة بين الدول.

ومعلوم أنه منذ لحظة إقرار قانون «جاستا»، وحتى اليوم، توالت الانتقادات والتحذيرات الدولية على الولايات المتحدة الأميركية؛ فقد حذّر البرلمان الأوروبي من أن قانون «جاستا» يتعارض مع المبادئ الأساسية للقانون الدولي، وأنه قد يدفع دولاً أخرى لإقرار تشريعات مماثلة لملاحقة مسؤولين أميركيين. كما أن الرئيس الأميركي الأسبق؛ باراك أوباما، عارض القانون، واستخدم حق النقض الرئاسي (الفيتو) ضده، وصرّح بأنه لا يخدم المصالح الأميركية، بينما اعترفت وزارة الخارجية الأميركية، في عددٍ من مذكراتها، بأن القانون يعرّض الولايات المتحدة لمخاطر «المعاملة بالمثل»، بل إن أصواتاً، داخل الكونغرس، ارتفعت محذّرة، مثل السيناتور مارك وارنر، الذي قال: «أنا أتعاطف مع أسر الضحايا، لكنني أخشى أن يؤدي فتح باب الحصانة السيادية إلى تعريض جنودنا ودبلوماسيينا للملاحقة القضائية في الخارج».

ولم تقتصر الانتقادات على دولٍ من مختلف أنحاء العالم، بما في ذلك مؤسسات غربية؛ إذ عبّر خبراء قانونيون في الأمم المتحدة عن قلقهم من أن قانون «جاستا» يقوّض التوازن بين سيادة الدول. وأكد هؤلاء أن الحصانة السيادية ليست امتيازاً يُمنح بشكل انتقائي، بل هي حق أصيل لكل دولة ذات سيادة يضمن استقرار العلاقات الدولية، كما اعتبرت لجنة القانون الدولي أن سن مثل هذه التشريعات يعرِّض النظام القانوني الدولي لخطر التفكك والتسييس، ويقوض الجهود الجماعية الرامية إلى مكافحة الإرهاب.

وهكذا، يتضح أن القرار، الذي اتخذه القاضي دانيلز مؤخراً، لم يكن اجتهاداً قضائياً بقدر ما كان تطبيقاً لإطار تشريعي مسيس فرضه، وأتاحه قانون «جاستا». وتكمن الخطورة الحقيقية لقانون «جاستا» وقرار القاضي دانيلز في أن هذا القانون الأميركي لم يقتصر على ضرب مبدأ الحصانة السيادية، بل فتح الباب أمام الانزلاق نحو فوضى قانونية تتسم بالانتقام والانتقام المتبادل، بحيث تتحول معه المحاكم إلى ساحات لتصفية الحسابات السياسية، لا لتحقيق العدالة وتطبيق القانون الدولي المتعارف عليه منذ قرون.

وختاماً، فإن استمرار تطبيق قانون «جاستا»، والسعي إلى توسيع نطاقه، لا يمسان فقط دولاً ذات سيادة مثل المملكة العربية السعودية، بل بحسب تحذيرات مسؤولين أميركيين رفيعي المستوى، يضر بالمصالح الدبلوماسية والعسكرية للولايات المتحدة نفسها، ويعرّض ممتلكاتها وأصولها في الخارج لمخاطر الحجز أو المصادرة، ويؤثر سلباً في علاقاتها الدولية. وقد شدّد هؤلاء المسؤولون على أن تقويض مبدأ الحصانة السيادية، المستقر منذ قرون، لا يقتصر على المساس بقاعدة قانونية راسخة، بل يفتح الباب أمام تفكك منظومة التوازن بين الدول، وهي المنظومة التي وفّرت استقراراً للنظام القانوني والعلاقات الدولية لأكثر من 5 قرون.

*محامٍ دولي