د. عبد المنعم سعيد
عضو مجلس الشيوخ المصري حالياً، ورئيس مجلس إدارة «مؤسسة المصري اليوم» الصحافية في القاهرة، ورئيس اللجنة الاستشارية لـ«المجلس المصري للدراسات الاستراتيجية»، وسابقاً كان رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة الأهرام» الصحافية، و«مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية»، و«المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية»، وعضو مجلس الشورى المصري. كاتب في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ عام 2004، و«الأهرام» و«المصري اليوم»... وعدد من الصحف العربية. أكاديمي في الجامعات والمعاهد المصرية، وزميل زائر في جامعة «برانديز» الأميركية، ومؤلف للعديد من الكتب.
TT
20

منعطف جديد في حرب غزة

استمع إلى المقالة

عندما نشبت حرب غزة الخامسة، في 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، كان ذلك منعطفاً كبيراً في مسيرة الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، ولم يكن ذلك تاريخاً جديداً للقضية الفلسطينية، ولا كان تعبيراً عن احتلال إسرائيلي طال بكل سوءاته وأحقاده؛ وإنما كان إعادة تشكيل حزمة من أبعاد الصراع يتداخل فيها الحدث، والأحداث التي تبعته، والتطورات الدولية والإقليمية لكي ندخل الآن في منعطف جديد عنوانه «ما بعد فشل الهدنة». فشلت الهدنة ولم تسفر لا عن امتداد للفصل الأول منها، ولا التفاوض حول الفصل الثاني لهدنة أخرى، وعاد المشهد كما عرفناه من حرب الإبادة الجماعية التي بات الاختيار بينها وبين الدفع «الطوعي» إلى خارج القطاع هو الطرح الإسرائيلي. الغريب أن الأيام الأولى ما بعد انتهاء الهدنة لم تسفر عن طرح «حماس» لما سوف تفعله إزاء الضغط العسكري الإسرائيلي الشديد والقاسي؛ وإزاء الدفع نحو التهجير من خلال ميناء أشدود أو من أحد المطارات الإسرائيلية القريبة بعد البحث والتقصي بين دول العالم الصعبة الظروف عمن سوف يستقبل المهاجرين.

الغريب أنه بينما اتجه البصر العربي نحو تحليل الموقف الإسرائيلي الوحشي ودفعه في اتجاه الظروف الداخلية الإسرائيلية، والدفعة التي جاء بها الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى ساحة المفاوضات؛ فإن أحداً لم ينظر في اتجاه الطرف الفلسطيني المفاوض (حماس)، ولا تأثيرات الغزوة الإسرائيلية الجديدة على حسابات ومواقف الممثل غير الشرعي للشعب الفلسطيني.

المنعطف لم يأتِ على طريقة «ما أشبه الليلة بالبارحة»، فرغم أن ملامح الإبادة الجماعية متشابهة، والضغوط في اتجاه التهجير العرقي قائمة؛ فإن الواقع لا يجعلها أكثر حدة ووحشية وإنما يضيف لها المضاعفة «الترمبية» في المفاوضات وتأييد الغزوة الإسرائيلية الرئيسية؛ وأكثر من ذلك حرب شاملة ضد الحوثيين، والتلويح بأخرى تجاه إيران. استمرَّت حرب غزة في حالتها، ووجهتها الإقليمية؛ ولكنها هذه المرة تأتي في مواجهة زخم رئيس أميركي جديد جاء على أكتاف صناعة السلام في وقت قصير، لكي يجري حرباً واسعة وربما تكون أبدية. المنعطف جاء في الوقت الذي نجحت فيه دول عربية في انتزاع المبادرة، بخطة تعمير غزة، المصرية - العربية، من دون تهجير أهلها، وباتت فيه الرياض عاصمةً للمفاوضات في حرب أخرى بين روسيا وأوكرانيا بشهادة الولايات المتحدة. وفي الوقت الذي لم يعد في جعبة «حماس» ما تقدمه لا للمفاوضات ولا للحرب، فإن الآلة الإعلامية الإسرائيلية، والغربية مؤخراً، فتحت مدافعها الثقيلة على مصر بوصفها «جبهة» جديدة منتظرة في مواجهة إسرائيل التي باتت تعتقد أن إعادة تشكيل الإقليم، وهو وجه آخر لقيادته، لا بد أن تعيد النظر في اتفاقيات السلام السابقة. فعلت ذلك إسرائيل في معاهدة فصل القوات 1974 مع سوريا التي كسرتها، وفوقها احتلت مسافات إضافية تحت اسم عازلة تارة، ومرشحة للضم التعسفي من الرئيس ترمب كما فعل سابقاً.

المنعطف الآن بات أكثر تعقيداً بعد أن دخلت سوريا، التي تعيش في مرحلة تحول غير معلومة النهاية، إلى ساحة مواجهة لا ترغب الوجود فيها، مضافةً لها نتائج المواجهة مع إيران وسواعدها في المنطقة. التحرش مع مصر ليس جديداً، ولكن الانتقال من تحرش، إلى ادعاء تهريب الأسلحة إلى «حماس» في بداية الحرب، إلى الشكوى من الوجود العسكري المصري على أرض مصرية في سيناء، والتجاهل التام لما حدث من تعديلات على البروتوكول العسكري الملحق باتفاقية السلام المصرية - الإسرائيلية، وآخرها الذي جرى في 10 نوفمبر (تشرين الثاني) 2021 يعطي لمصر الحق في تعزيز وجودها ليس فقط في سيناء عامة، وإنما تحديداً أيضاً في المنطقة الحدودية برفح. التحرش الإسرائيلي مضافاً له الغش المباشر في تجاهل وجود القوات المتعددة الجنسيات، ونصفها أميركي، وهي التي تحكم تفسير هذه الاتفاقيات، وفوقها التهديد بالإيعاز للصحف العبرية والإنجليزية بإمكانية تدمير مصر بقصف سد أسوان العالي. القراءة لكل ذلك تدفع في اتجاه مزيد من القسوة داخل قطاع غزة، من دون قدرة على المواجهة من «حماس» التي باتت مكتفيةً بالنصر على شاشات التلفزة؛ وإلى مزيد من دفع حرب القطاع لكي تكون حرباً إقليمية مندفعة في جميع الجهات.

التصور هكذا متشائم، خصوصاً بعد أن أخذت الحرب الأوكرانية أولويةً على حرب غزة في جدول الأعمال الأميركي، وبعد أن باتت إسرائيل تعتقد أنها تستطيع ابتلاع قضمات من جيرانها إرضاءً لجماعات فاشية داخلها. ما لا تعلمه إسرائيل هو أنها تفقد فرصةً للتعايش في المنطقة، ولعلها أيضاً لا تعلم أن بعض القضمات ليست فقط مريرة ولكن أكثر من ذلك، فإن محاولة ابتلاعها سوف تكون خانقةً. تلك هي المسألة!