د. عبد المنعم سعيد
عضو مجلس الشيوخ المصري حالياً، ورئيس مجلس إدارة «مؤسسة المصري اليوم» الصحافية في القاهرة، ورئيس اللجنة الاستشارية لـ«المجلس المصري للدراسات الاستراتيجية»، وسابقاً كان رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة الأهرام» الصحافية، و«مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية»، و«المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية»، وعضو مجلس الشورى المصري. كاتب في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ عام 2004، و«الأهرام» و«المصري اليوم»... وعدد من الصحف العربية. أكاديمي في الجامعات والمعاهد المصرية، وزميل زائر في جامعة «برانديز» الأميركية، ومؤلف للعديد من الكتب.
TT
20

التفكير في المسألة السورية؟!

استمع إلى المقالة

تاريخياً، دارت «المسألة السورية» حول مدى تماسك الدولة وقدرتها على إقامة نظام «وطني» يمكنه استيعاب كافة ألوان الطيف، ليس فقط السياسي، وإنما العقائدي والطائفي. ومنذ نجحت «هيئة تحرير الشام» في دخول دمشق وإطاحة نظام البعث المستبد، فإن الرهان بات على إمكان النجاح في إقامة الدولة الوطنية. والحقيقة أن المسألة أخذت أشكالاً مختلفة في مراحل زمنية متعددة كان مطروحاً فيها قضية الدولة وتماسكها واستقرارها. وكان جيمس روزناو هو الذي وضع القانون العام لحركة الدول والمجتمعات، في أعقاب انتهاء الحرب الباردة بأنها سوف تتراوح ما بين «الاندماج والتفكيك»، وكان النموذج الأوروبي شاهداً على الاندماج والتكامل بين دول تحاربت على مدى التاريخ في ظل النظام الليبرالي الرأسمالي، وكان تفكيك الاتحاد السوفياتي ويوغوسلافيا شاهداً على عجز القدرة على إدارة التنوع والتعددية في المجتمع والدولة. ولكن بعد مضي ربع قرن تقريباً على هذا المقترب، ومرور الفترة نفسها بعد إعلان فرنسيس فوكوياما عن «نهاية التاريخ»، فإن المسألة الآن تبدو أكثر تعقيداً من أي وقت مضى. فالخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي بدأ مرحلة للتفكيك لم تكن متوقعة، وتصويت شعب القرم وأجزاء من أوكرانيا على الانضمام إلى روسيا أعاد أشكالاً للتوحيد لم يظن أحد أنها لا تزال قائمة.

في العالم العربي، كانت المدرسة القومية في الفكر السياسي تقوم على أن الصلات التي ترتبها العلاقة مع «الوطن العربي»، ينبغي لها أن تتفوق على كل الأبعاد بحيث تخلق رابطة بين «المواطنين» تتعدى الروابط الدينية والعرقية. ولما كان ذلك صعباً، فقد عمدت المدرسة القومية إلى دعم الروابط «القومية»، ومنها كان الاهتمام باللغة والثقافة والتاريخ «المشترك» والمصالح المشتركة. وفي هذه المدرسة، يصير التأكيد على «الخطر» المشترك ممارسة يومية، ويصبح في مقدمة هذه الأخطار السعي من قبل أنواع كثيرة من «الأعداء» لتفتيت الأمة. ولذلك لم يكن من قبيل المصادفة أن الفكر «القومي» إما أنه أنكر تماماً فكرة التمايزات العرقية والمذهبية، وإما أنه اعترف بها، ولكنه خلق آليات التنشئة السياسية؛ من تعليم وإعلام، وأدوات حزبية للقولبة السياسية، تقوم بتخريج القوميين المتحمسين.

المدهش أن نتيجة الفكر القومي كانت خلق حالات مضادة من الأفكار القومية لدى الأقليات، التي تجد نفسها لا تعبر عن ثقافتها وتقاليدها إلا في إطار دولة قومية لها هي الأخرى. وفي العالم العربي كان ذلك هو ما فعلته المدرسة القومية، ولسنوات طويلة كانت الإجابة عن سؤال حالة الأقليات في المنطقة واحدة، وهي أن كل الأحوال على ما يرام، بل إن المجيب سوف يرفض توصيف جماعة عرقية أو لغوية على أنها «أقلية»، فالجميع مواطنون متساوون، والجميع منصهرون في «سبيكة» واحدة.

المدرسة الاشتراكية اعتبرت القضية إما أنها مفتعلة تستخدمها الطبقات المُستغِلة من أجل الحفاظ على سيطرتها؛ وإما أنها قضية حقيقية ولكنها لا ينبغي لها أن تجب الروابط الاقتصادية والاجتماعية التي تربط الكادحين ببعضهم. وببساطة فإن الفكر الاشتراكي اعتبر الرابطة الطبقية أقوى من كل الروابط التي لها علاقة مع هويات أخرى. وكان ما جرى في العالم العربي خلال الستينات في عدد من الدول العربية ربطت ما بين «الاشتراكية» و«القومية»، وأصبح تحقيق «العدالة» و«الوحدة» الطريق لصهر التنويعات المختلفة في دولة واحدة. وبعيداً عن الأفكار القومية والاشتراكية، فقد كانت الدولة العربية البيروقراطية المتولدة عنهما هي التي خلقت آليات للعنف والخوف قادرة على كبت التطلعات والتقاليد المختلفة. ولذلك فإنه حتى مع تراجع الفكر القومي، وانهيار الفكر الاشتراكي خاصة بعد زوال الاتحاد السوفياتي، فإن عملية القهر استمرت حتى مع الدول التي لم تعدّ الاشتراكية والقومية من المذاهب الفكرية المعبرة عنها.

كانت المدرسة الليبرالية هي التي قدمت في بلدان كثيرة من دول العالم حلاً لإشكالية التعدد العرقي والمذهبي والديني في دولة واحدة، من خلال مجموعة من الآليات السياسية. فهي من ناحية اعتمدت على الفرد بوصفه وحدة سياسية أولية، واستناداً إلى هذا الفرد صار هناك صوت واحد لكل إنسان يمارس به السياسة تعبيراً عن نفسه وليس عن القبيلة أو الجماعة. ومن الفردية انبثقت فكرة المواطنة التي تجعل جميع «المواطنين» شركاء في «وطن» واحد، على أساس من المساواة الكاملة أمام القانون، بغض النظر عن العرق أو الدين أو العقيدة أو اللون أو الجنس. فهل يمكن لسوريا أن تعيش هذا النهج الذي تبنته دول عربية أخرى لا تعرف الطائفية ولا الميليشيات المنبثقة عنها؟