في أواخر التسعينات، زرتُ معرضاً جدارياً في مكتبة الكونغرس، يعرض تفوق الصور الملونة التي التقطتها الأقمار الاصطناعية. كانت البداية مع اللقطة الشهيرة للأرض، تطفو في ظلمة الفضاء، ثم اقتربت العدسة، فكشفت الولايات المتحدة، ثم زادت الدقة حتى بدت حديقة في إحدى الولايات، وفيها شخص مستلقٍ على ظهره، وبجانبه كتاب قرأت عنوانه بوضوح.
تتابعت الصور الضخمة تبهرني وتبهر زوار المعرض، حتى عرضت الكاميرا ظاهر يده، فاستطعت عدّ شعراتها من شدة نقاوة الصور! لكن المفاجأة الكبرى كانت حين اخترقت العدسة منبت الشعر ذاته، فاكتشفتُ –وللمرة الأولى– أنها كانت على شكل «مُعَيّن»!
ذكرني هذا المشهد بطرفة شاعت إبان «عاصفة الصحراء» لتحرير الكويت حينما قيل إن الأميركيين قادرون على قراءة أرقام لوحات سيارات أهدافهم قبل قصفها. ربما يبدو الأمر بديهياً في عصرنا لكنه لم يكن كذلك قبل 35 عاماً. وإذا كانت هذه هي إمكانات التكنولوجيا آنذاك، فكيف هو الحال الآن؟
وهذه مسألة تجرنا إلى عدم الاستهانة بالعلم ولا بالتخصصات المستقبلية الواعدة. فالطباعة الثلاثية الأبعاد كانت وسيلة تسلية لصنع نماذج أولية وكرتونية. صارت اليوم تُستخدم لطباعة أعضاء بشرية، وهياكل عمرانية كالبنايات والمنازل وغيرها.
وصار الطبيب الجراح يقطع بمشرطه صدر المريض، عن بعد، ويخرج قلبه ويعالجه ثم يُعيد خياطته وهو جالس في عيادته في قارة أخرى! التخصصات التي كان لا يُلقى لها بالاً، كالحواسيب والأمن السيبراني صارت ضرورة ماسة لحماية «جبهة» البيانات الوطنية والشركات. ولذلك اضطرت السعودية لتنظيم فعاليات عالمية غير مسبوقة بتجميع أكبر عدد من المبرمجين، لترى ماذا يمكن أن يصنع جيش المبرمجين والمشفرين، حيث تستهدف البلاد تأهيل «مبرمج» من بين كل 100 مواطن سعودي، وهو عدد هائل. وقد استحدثت بلدان خليجية وعربية بعثات في تخصصات كانت تعتبر في الأمس القريب هامشية أملاً في تلبية حاجات سوق العمل. كما أن الاستجابة لاحتياجات السوق تتجلى برفع ميزانيات التدريب التقني لتسليح الناس بمهارات العصر.
ولذلك كان على البلدان والشركات أن تتعامل بجدية مع تقارير ومؤتمرات استشراف المستقبل لتسبق الأحداث وتغتنم فرص التكنولوجيا قبل فوات الأوان. فمَن يستعد للمستقبل يحجز مقعده مبكراً في مضمار التنافس.