إعلان الرئيس الأميركي عن نيته الاستيلاء على غزة وترحيل أهلها وتحويلها إلى ريفييرا الشرق الأوسط صدم العالم، ولكنه لم يفاجئ مَن كان يتابع تصريحاته في الأسبوعين الماضيين، أو يطلع على السيرة الذاتية ومواقف المسؤولين الذين اختارهم لقيادة سياسته الخارجية والدفاعية، خصوصاً علاقته مع إسرائيل.
فالرئيس ترمب يفكر في هذه القضية منذ فترة، كما قالت المتحدثة باسم البيت الأبيض، ولكن يبدو أن الذي أسهم في خروجها إلى العلن هو التقرير الذي سمعه من مبعوثه إلى الشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، الذي قال بعد زيارته إلى غزة إنها غير قابلة للسكن، وإن إعادة إعمارها قد تستغرق من 10 إلى 15 سنة. لكن من الواضح أنه ليست هناك خطة واضحة، وقد أحدث إعلانه بلبلة ومواقف متناقضة في واشنطن.
مسؤولون في الإدارة الأميركية تحدّثوا للصحافة الأميركية، من دون الكشف عن أسمائهم، ليقولوا إن الفكرة هي فكرة الرئيس وحده، وإنه ليس هناك أي خطة وضعت أو جرى بحثها داخل البيت الأبيض أو وزارتي الخارجية أو الدفاع لنشر جنود أميركيين أو لاستحواذ غزة. في الكونغرس الذي يُسيطر فيه الجمهوريون على الأغلبية، خرجت أصوات -وإن قليلة- تستغرب تصريحات الرئيس، خصوصاً أنها تتعارض بشكل كامل مع سياسة الرئيس ترمب خلال حملته الانتخابية التي تُعارض التدخل الخارجي، وتتعهد بسحب الجيوش الأميركية من الخارج وتُركز على «أميركا أولاً»، وتعارض المساعدات المالية حتى للحلفاء. هذا دفع البيت الأبيض لكي يوضح موقف الرئيس، ولكن دون التراجع عن الفكرة لكي يطمئن قاعدته بأنه لا ينوي نشر الجيش الأميركي في غزة، ولن تمول الولايات المتحدة إعادة إعمار غزة. أما ترحيل الفلسطينيين فهو «مؤقت»، كما أوضحت الناطقة باسم البيت الأبيض.
وبصرف النظر عن كل النظريات التي تُحاول تفسير هدف الرئيس ترمب من إعلانه هذا الذي قوبل برفضين عربي ودولي، فإن تبعات هذا الإعلان السياسي على الصراع حول فلسطين لا يمكن عكسها، وبدأت مفاعيلها تظهر في الخطاب السياسي وعلى الأرض.
فمخططات اليمين الإسرائيلي، ومن هم داخل الحكومة الإسرائيلية التي تسعى إلى ضم الضفة الغربية، وإعادة احتلال غزة وضمها انتقلت بعد إعلان الرئيس لكي تطبّع خطابها، بحيث يُصبح خطاباً سياسياً يُطلق في العلن ومقبولاً. فإعلان غزة عدّه اليمين الإسرائيلي بمثابة ضوء أخضر للتحرك نحو ضم الضفة الغربية، وفي الواقع أن وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش قال بعد انتخاب ترمب: «إن عودة ترمب تعني أن 2025 ستكون سنة السيادة على يهودا والسامرة»، وهو الاسم التوراتي الذي تستخدمه إسرائيل للضفة الغربية.
وبعد إعلان الرئيس ترمب خطته لامتلاك غزة، أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، أنه أعطى أوامره إلى الجيش الإسرائيلي لوضع خطة للسماح لأهالي غزة بالمغادرة بإرادتهم إلى أماكن أخرى حول العالم، شارحاً أن الخطة تضم نقاط عبور أرضية، وأيضاً ترتيبات للرحيل عبر البحر والجو.
وجاء هذا الإعلان الإسرائيلي بعد المؤتمر الصحافي، الذي قال فيه الرئيس ترمب ردّاً على سؤال عما إذا كان سيقبل السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية: «سوف نعلن موقفنا بعد أربعة أسابيع». فإعلان غزة هو مقدمة لما هو آتٍ. فهل سنرى اعترافاً أميركياً بسيادة إسرائيل على الضفة، ما يعني وأد كل آمال عربية بالسلام القائم على حل الدولتين، وحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني؟
النظر إلى المسؤولين الأميركيين الذين تولوا مناصب تضعهم في مركز القرار حول النزاع الإسرائيلي الفلسطيني يدعو إلى الشك إزاء إمكانية خروج سياسة أميركية عادلة وحيادية تجاه الفلسطينيين، لأن غالبيتهم العظمى تُشارك اليمين الإسرائيلي المتطرف آراءه، مثل السفير الأميركي الجديد لدى إسرائيل الذي يقول إنه ليس هناك شيء اسمه احتلال في إسرائيل. أما السفيرة الأميركية الجديدة لدى الأمم المتحدة، فقالت ردّاً على سؤال خلال جلسة الموافقة على تعيينها في الكونغرس، إنها توافق على القول بأن الضفة الغربية هي حق توراتي لإسرائيل. وكان السيناتور كريس فان هولن قد لاحظ هذا الأسبوع أن «هناك التقاءً خطيراً في المواقف بين المسؤولين الأميركيين والإسرائيليين حول حق تقرير المصير للفلسطينيين».
ولكن نحن نعرف أن القرار النهائي هو قرار الرئيس الأميركي، الذي اختار أن يكون أول مَن يستمع إليه من المنطقة هو نتنياهو، ولكنه سمع هذا الأسبوع أيضاً من المملكة العربية السعودية موقفاً واضحاً وثابتاً وغير قابل للتفاوض، حسب بيان وزارة الخارجية السعودية، بعد ساعة واحدة من إعلانه حول غزة، والذي أكد أن موقف المملكة من قيام دولة فلسطينية هو «موقف راسخ وثابت لا يتزعزع»، مؤكدة «رفضها القاطع المساس بحقوق الشعب الفلسطيني المشروعة، سواء من خلال سياسات الاستيطان الإسرائيلي أو ضم الأراضي الفلسطينية، أو السعي لتهجير الشعب الفلسطيني من أرضه».
إن ما سيقنع الرئيس ترمب هو إذا حصل التفاف وإجماع عربي وإسلامي وعالمي حول هذا الموقف السعودي والمبادئ الواردة فيه، خصوصاً إذا حصل ذلك عبر آلية أو رسالة موحدة. لا سيما أن هناك تقارير تفيد بأن الرئيس ترمب سيزور السعودية قريباً، وربما تحصل قمة إقليمية معه، حسب هذه التقارير، فتكون تلك مناسبة لكي يرى الرئيس أن مصلحة الولايات المتحدة ومصلحة السلام وأجندته للسلام في المنطقة يجب أن تكون مرتكزة على إجماع عربي ودولي والقانون الدولي، ما يؤدي إلى سلام دائم واستقرار في المنطقة وليس على أهواء اليمين الإسرائيلي المتطرف، الذي يريد دفع الولايات المتحدة لتكون شريكاً في التطهير العرقي، وارتكاب «جريمة حرب» حسب القانون الدولي، وخرق كل المبادئ التي قامت عليها الولايات المتحدة.
الوزير الإسرائيلي المتطرف إيتمار بن غفير توجّه إلى الرئيس الأميركي ترمب، معلقاً على إعلانه نية استحواذ أميركا على غزة بالقول: «إن هذه بداية صداقة جميلة». وهذا القول استعاره من المشهد الأخير في فيلم كازابلانكا، وهو رمز إلى بداية صداقة بين بطلي الفيلم، بعد تغطية رئيس الشرطة لويس جريمة ريك (همفري بوغارت) عندما قتل ضابطاً عسكرياً لمنعه من إيقاف الطائرة، والقبض على لاجئ سياسي هارب، والتواطؤ بينهما للتغطية على الجريمة.
الرئيس ترمب ليس مثل بن غفير، وهو أعلن أكثر من مرة أنه يسعى إلى السلام، ويريد أن يكون السلام إرثه. على الرئيس ترمب أن يرفض هذه الصداقة التي لا تقود إلا إلى تقويض أجندته وإرثه، كما تقوض منطقة بكاملها. إن أصدقاء أميركا الحقيقيين هم شركاؤها في السلام.