بندر بن عبد الرحمن بن معمر
كاتب وباحث سعودي مهتم بالتاريخ، له مؤلفات مطبوعة ومقالات وبحوث منشورة. وهو أيضًا رجل أعمال وعضو مجلس إدارة عدد من الشركات، ومستشار لعدة جهات وهيئات.
TT

مئوية الريحاني ومنهجية كتابة التاريخ السعودي

استمع إلى المقالة

ظلت كتابة التاريخ السعودي منذ بدايات تدوينه في الدولة السعودية وفقاً للأساليب الكتابية الدارجة في كل إقليم، لكن أياً كانت الأساليب فهي إجمالاً تنتمي للمدرسة التقليدية (المنهج الحولي)، وإذا أمعنا النظر في التواريخ النجدية تحديداً وجدناها تسجل تواريخ البلدان وشخصياتها وحوادثها ونزاعاتها ووفياتها وغير ذلك بوصفها سجلات حولية سنوية، وتفاوتت تلك المدونات أو السجلات التاريخية في الزيادة والنقص، وأقصد هنا تواريخ أمثال: أحمد البسام (ت1631)، وأحمد المنقور (ت1713)، ومحمد بن ربيعة (ت1745)، ومحمد بن عباد (ت1761)، ومن عاصرهم من المؤرخين.

التطورات اللافتة بدأت مع دعم الدولة للكتابة التاريخية، ويعد حسين بن غنام (1740-1810) من أبرز مؤرخي تلك المرحلة علاوة على تأسيسه لمنهجية جديدة في تدوين التاريخ تميزت بسرده للوقائع مع محاولة تفسيرها، إضافة إلى الحوادث والتواريخ عن «الدعوة الإصلاحية».

ورغم الانتقادات الواسعة اليوم لمحتوى «تاريخ ابن غنام» ومضمونه وأسلوبه، يظل هو المصدر التاريخي الأول والسجل الأوفى لتلك المرحلة؛ وأرى أن يُقرأ وفق سياقه الزمني ومرحلته السياسية والظروف المحيطة، فمن يقرأ تواريخ أقاليم الجزيرة العربية في الحجاز واليمن وعمان في ذلك الزمن يجد تماثل العبارات وتوافق المقاصد، ناهيك عن تواريخ الأمم الأخرى التي - وفي حقب متفاوتة - تعج بطوام إقصائية، ونظرة على التواريخ الأوروبية قبل وأثناء الحروب الكاثوليكية اللوثرية تنبئ عن ذلك. بيد أنني هنا لست بصدد دراسة «تاريخ ابن غنام» أو غيره؛ بل إن تركيزي على المنهجية الكتابية وليس عن المحتوى أو الأسلوب.

المنعطف الثاني في المدرسة التاريخية النجدية جاء مع حمد بن لعبون (ت1844) الذي كان سهلاً في لغته سلساً في أسلوبه متزناً في أحكامه وموضوعياً في كتاباته وتحليلاته، علاوة على تجاوزه التاريخ المحلي إلى العربي والإسلامي، يقول المؤرخ السعودي الدكتور عبد الله العسكر: «ابن لعبون صاحب منهج رائد ويستحق لقب شيخ المؤرخين النجديين، تميز تاريخه بمزيتين: الأولى أنه مصدر لكل من أتى بعده من المؤرخين، والثانية أنه أورد معلومات لا توجد في مصدر معاصر له. كما تميز بنظرته الاستشرافية؛ فهو أول من أطلق اسم (الدولة السعودية) على إمارة الدرعية، ويذهب بعض المؤرخين إلى أنه أول من أطلق اسم (إمام) على أميرها». بينما تفرد المؤرخ السعودي الدكتور عبد الله المنيف بأن ابن لعبون هو من نقّح «تاريخ ابن غنام» وليس عثمان بن بشر (ت1873) الذي استفاد من تاريخ ابن لعبون وتابعه في كثير من المواضيع، فإن أخطأ ابن لعبون تابعه دون تمحيص أو تصحيح!

وكما حظي ابن غنام بدعم الإمام عبد العزيز بن محمد ثم الإمام سعود بن عبد العزيز، حظي ابن بشر بدعم الإمام فيصل بن تركي؛ وتميّز تاريخه برصده للأحداث قبل قيام الدولة السعودية، وشمل تاريخ أقاليم الجزيرة العربية التي انضمت إليها مع تركيزه على تاريخ نجد وأئمتها.

مع استرداد الملك عبد العزيز للرياض وبروزه في المشهد، بدأ توافد المبعوثين والرحالة ورسل الإمبراطوريات، لم يكن يخفى على الملك المؤسس الدوافع والغايات؛ لذا قال لأمين الريحاني حينما التقاه لأول مرة في العقير، ديسمبر (كانون الأول) 1922، كان اللقاء بحضور عبد اللطيف المنديل وعبد الله الدملوجي:

«قالوا لنا إنك أميركي وجئت تبشر بالدين المسيحي في البلاد العربية، وقالوا إنك تمثل بعض الشركات وجئت تبغي الامتيازات، وقالوا إنك قادم من الحجاز وتسعى لتحقيق دعوة الشريف، وقالوا غير ذلك؛ فقلنا إذا كان في الرجل ما يضر فنحن نعرف كيف نتقيه، وإذا كان فيه ما ينفع فنعرف أيضاً كيف ننتفع...»، وفي موقف آخر قال له: «لا تقل لي إنه لا دخل لك بالسياسة، وإن سياحتك سياحة علمية فقط، حنا نفهم...، لا تخدعنا يا أستاذ!».

كان انطباع الريحاني بعد اللقاء الأول: «ها قد قابلت أمراء العرب كلهم فما وجدت أكبر من هذا الرجل...، يفصح في أول جلسة عن فكره ولا يخشى أحداً من الناس...، ويثق بعد الله بنفسه...، إن الرجل فيه أكبر من السلطان وقد ساد قومه بالمكارم لا بالألقاب...، إني سعيد لأني زرت ابن سعود بعد أن زرتهم كلهم. هو حقاً مسك الختام».

ويُعد الريحاني أول مؤرخ يتلقى المعلومات إملاءً من الملك عبد العزيز، ويحبه ويعجب به، ويلقي المحاضرات ويكتب في الصحف والمجلات في أميركا وأوروبا عن الحكم السعودي ممثلاً إحدى قنوات الإعلام الخارجي للملك عبد العزيز وبلاده في ذلك الوقت المبكر. ولا يكتفي بكتابة سيرة الملك وتاريخ البلاد؛ بل يراجع مسوداته معه، يقول الباحث السعودي أحمد العلي: «وقد جاء في رسالة منه إلى الملك عبد العزيز في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1923: (... قد سبق مني في تاريخ 6 صفر الماضي كتاب عن طريق بغداد يتضمن مسودة ما أُلِّف لتطلعوا عليها وتعيدوها مع ملاحظاتكم وأوامركم...) وكان يعني مسوّدة كتاب (ملوك العرب)، ...».

ومع ذلك لم يسلم من كتابة التقارير! «إذْ فوجئ الريحاني في يناير (كانون الثاني) 1928 برسالة من يوسف ياسين ينبهه إلى مقال نشرته جريدة اللطائف المصوّرة نقلاً عن إحدى المجلات الأميركية منسوباً إلى الريحاني، ويخبره بحساسية هذه المواضيع. فجاء رد الريحاني في رسالتين: الأولى إلى يوسف: (... ولا تظن - رعاك الله - أني أكتب في الإنجليزية شيئاً لم أكتبه بالعربية. كنت أنتظر منكم كتاباً فيه تقدير لخدماتي في هذه البلاد الأميركية...)، والثانية إلى الملك: وفيها يخبره أنه قد وصله أنّ الملك أبدى امتعاضاً من مقال للريحاني في إحدى الجرائد المصرية، ويؤكد أنه لم يكتب إلا ما يدعو إلى الإعجاب والمفاخرة...».

لكن العلي، الذي وقع على طبعة أولى نادرة لكتاب الريحاني «Maker of Modern Arabia» (صانع الجزيرة العربية الحديثة)، خلَص إلى أنه ترجمة لرحلة أمين النجدية المبثوثة بين كتابيه «ملوك العرب» (1924)، و«تاريخ نجد الحديث» (1928). وبعد أن استعرض النسخ ووازى بين نصوصها العربية وقارنها بالإنجليزية، وجد أن «الريحاني في الإنجليزية كان أكثر تمكناً في السرد وأدواته منه في العربية...»، ويستطرد العلي: «لكنّي أحسب أن أمين لم يتوجه في سرده العربي إلى شعوب الأمة العربية، حتى إن قال عكس ذلك، ففي ذاك الزمان والمكان لم يكن أمين في حاجة إلى علاقات كثيرة لنيل الحظوة، أو إلى توحيد الآراء لتحقيق مصلحة ما؛ بل يكفيه رأس القوم عن كل ما عداه». يفتح العلي نوافذ كثيرة ويطرح تساؤلات في قراءته المختلفة عن أمين الريحاني ورحلته وإرثه وغير ذلك عنه؛ لكن ما يهمني هنا هو السؤال الذي فات كثيرين ممن أرخوا للريحاني وكتبوا عنه وعن علاقته بالملك عبد العزيز، وهو: ما الأثر الأكبر للريحاني في كتابة التاريخ السعودي؟ والذي أراه أنه أسس نهجاً مختلفاً في تدوينه، وأحسبه أول من تجاوز المدرسة التقليدية بحولياتها وسردها للسنين وحوادثها وكَتَبَ «التاريخ السعودي الحديث» بالمنهج الشمولي أو قل «البانورامي» بشرح الخلفيات وتحليل الروايات وربط النتائج والتفصيل في المعلومات؛ لذا يحسب لدارة الملك عبد العزيز الاحتفاء بمئوية كتابه الذي طور عبره الكتابة التاريخية السعودية؛ إذْ أعده رائد المدرسة التاريخية السعودية الحديثة.