ديفيد شينكر
زميل بارز لدى «Taube»
TT

لبنان يسير نحو السيادة الموعودة

استمع إلى المقالة

لقد تحررت سوريا من نظام الأسد، كما أن الحملة العسكرية العنيفة التي شنتها إسرائيل ضد جماعة «حزب الله» حررت لبنان بشكل فعَّال أيضاً، ولكن على عكس دمشق، فإن بيروت لم تستوعب هذا التحرر بعد.

ومن المؤسف أنه إذا لم تغتنم النخبة السياسية في بيروت هذه اللحظة، فإن هذه الفرصة العابرة للبنان ليتحول إلى دولة ذات سيادة ومستقرة ستضيع، وسيكون الاختبار الأول الذي ستواجهه البلاد في التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، عندما يجتمع نواب البرلمان اللبناني لانتخاب رئيس جديد للبلاد، وهو المنصب الشاغر منذ أكتوبر (تشرين الأول) 2022.

وعلى مدى السنوات الخمسين الماضية، كان لبنان نموذجاً للخلل الوظيفي، فمنذ عام 1975، عانت بيروت من حرب أهلية استمرت لمدة 15 عاماً أشعلها إرهابيون فلسطينيون، واحتلال عسكري وحشي من قبل نظام الأسد السوري، فضلاً عن التوغلات والغزوات المتكررة من قبل إسرائيل، كما أنه بعد انسحاب سوريا في عام 2005، عانى لبنان أيضاً لما يقرب من عقدين من الاحتلال الإيراني من خلال وكيل طهران هناك (حزب الله)، الذي كان يروع ويقتل معارضيه المحليين بشكل روتيني.

لكن العديد من مشاكل لبنان كانت ناتجة عن أفعاله الخاصة، إذ وصف برلمان الاتحاد الأوروبي الأزمة المالية المستمرة في بيروت بأنها «كارثة من صُنع الإنسان تسببت فيها مجموعة من الرجال في مختلف أنحاء الطبقة السياسية في البلاد».

وقد تجاهلت الحكومات اللبنانية المتعاقبة التخزين الإجرامي لنحو 3 آلاف طن من نترات الأمونيوم في مرفأ بيروت، وهو ما تسبب في الانفجار الهائل والمميت الذي شهدته البلاد في أغسطس (آب) 2020، وعندما انتهى الاحتلال السوري للبلاد، فإنه بدلاً من تعزيز هذا النصر، دخل العديد من السياسيين اللبنانيين الذين يُفترض أنهم موالون للغرب في تحالف انتخابي مع «حزب الله»، مما عزز الأخير على المستوى السياسي.

إن المشكلة الكبرى التي يواجهها لبنان اليوم تتمثل في القيادة، وذلك لأن معظم النخب السياسية في البلاد، المعروفة باسم «الزعماء»، تستفيد من الوضع الراهن ولا ترحب بالتغيير، فهم في الواقع معروفون بالفساد وضيق الأفق والطائفية.

وعلى الرغم من سجلهم المروّع في الحكم وتجاهلهم الدائم لرفاهية الشعب اللبناني، فقد أُتيحت لهؤلاء السياسيين فرصة العمر الآن لتغيير الوضع الراهن وإنهاء هيمنة «حزب الله»، وهذه الفرصة النادرة جاءت على أيدي إسرائيل.

ففي سبتمبر (أيلول) الماضي، وبعد عام من هجمات «حزب الله» بالصواريخ والطائرات من دون طيار، شنّت إسرائيل هجوماً مضاداً، وعلى مدى شهرين، تمكنت تل أبيب من تصفية قيادة الحزب ودمّرت مخزونه الاستراتيجي من الأسلحة والبنية التحتية العسكرية.

كما أدى سقوط نظام بشار الأسد في سوريا، في وقت سابق من شهر ديسمبر (كانون الأول)، إلى تعميق مدى تأثير العمليات الإسرائيلية في لبنان، إذ لم يعد «حزب الله»، الذي ذبح الآلاف من المدنيين أثناء الحرب الأهلية في خدمة الأسد، يستطيع الآن إعادة تسليح نفسه عبر الأراضي السورية.

وقد أعلن «حزب الله» انتصاره على إسرائيل، وهو أمر لم يكن مُرجحاً لكنه كان مُتوقَعاً، إلا أنه من الصعب تفسير التنازلات في اتفاق وقف إطلاق النار الذي تم بوساطة الولايات المتحدة في نوفمبر (تشرين الثاني) على أنها أي شيء آخر سوى استسلام غير مشروط، فـ«حزب الله» لم يكتفِ بالتوقيع على بنود قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 1701، الذي يقضي بإنهاء وجود الحزب في جنوب لبنان فحسب، بل وافق أيضاً على تنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 1559، الذي ينص على نزع سلاح جميع الميليشيات في مختلف أنحاء لبنان، ورغم أن «حزب الله» لا ينوي بوضوح نزع سلاحه، فإن موافقته الظاهرة على مثل هذه الشروط غير المواتية تنم عن شعوره بالضعف.

ومن الناحية المثالية، فإن وقف إطلاق النار وتراجع مكانة «حزب الله» بإمكانهما تمكين بيروت أخيراً من ممارسة السيادة في الجنوب، ومن ثم في مختلف أنحاء الدولة، ولكن من المؤسف أنه ليس من الواضح ما إذا كان لبنان سيغتنم هذه الفرصة.

فصحيح أن الحكومة تقوم بنشر القوات المسلحة في الجنوب، ولكنها قد تحجم عن توجيه هذه القوات للعمل بشكل استباقي على تفكيك البنية التحتية العسكرية لـ«حزب الله» ومصادرة أسلحته، ومن الصعب تصور مرحلة ثانية من نزع السلاح في الشمال بما يتفق مع قرار مجلس الأمن رقم 1559.

فالقلق الذي يساور الساسة في لبنان الآن هو أن الدخول في مواجهة مع الميليشيات الشيعية قد يؤدي إلى إشعال فتيل الحرب الأهلية مرة أخرى، ولعل الأمر الأكثر أهمية هو خوفهم من أن يستعيد الحزب قوته على الرغم من سقوط الأسد.

فعلى الرغم من أن إسرائيل نجحت في إضعاف «حزب الله» إلى حد كبير، فإنه لا يزال هناك ما يقدر بنحو 15 ألف مقاتل من الحزب مُسلحين ببنادق كلاشينكوف من طراز «AK – 47» وقاذفات «آر بي جي»، وصواريخ «كورنيت» المضادة للدبابات في لبنان، كما أنه بالنظر إلى تاريخ «حزب الله» واسع نطاق و«الدنيء» من الاغتيالات، فإن التهديد لا يزال قائماً.

وعلى الرغم من جميع هذه التحديات، فإن الوقت الحالي يبدو مناسباً بشكل فريد للبنان، وفي الفترة المقبلة، سيكون من الضروري للغاية دعم الزعماء السياسيين في البلاد الذين كانوا يخشون المخاطرة حتى الآن، ففي الأيام المقبلة، سينتخب البرلمان رئيساً جديداً من قائمة متنوّعة من المرشحين، تتراوح بين أولئك الذين يدعمون الوضع الراهن و«حزب الله»، وغيرهم من المدافعين عن الإصلاح والتغيير.

ومن أجل تشجيع القيادة اللبنانية، إن لم يكن إجبارها على اغتنام الفرصة التي أتاحها إضعاف إسرائيل لـ«حزب الله»، فمن المرجح أن تضطر واشنطن إلى ربط مساعداتها الاقتصادية والعسكرية بأداء القوات المسلحة اللبنانية في إنفاذ قرارات الأمم المتحدة، كما أنه قد تكون هناك حاجة إلى فرض عقوبات على السياسيين اللبنانيين المتمردين أيضاً.

«ففي الرواية التوراتية لخروج بني إسرائيل، استغرق الأمر من موسى 40 عاماً ليقود الشعب اليهودي المُحرر من مصر إلى أرض كنعان، ووفقاً لما يُقال بشكل تقليدي، فإنهم احتاجوا هذا الوقت الطويل لقطع مسافة لا تتجاوز 170 ميلاً فقط لأن هؤلاء العبيد السابقين لم يكونوا مستعدين ليكونوا أمة ذات سيادة بعد أكثر من 400 عام من العبودية»، لكن من المؤسف أن لبنان ليس لديه نفس رفاهية الوقت، وفي غياب جهد فوري ومُنسَّق لاستغلال النكسات التي تعرض لها «حزب الله»، فإن الحزب سيعيد بناء نفسه، ولكن مع الدعم المستمر من جانب واشنطن، وبعض الساسة الشجعان في بيروت، فإن لبنان قد يمكنه أن يصل أخيراً إلى أرض السيادة الموعودة.

* مساعد وزير الخارجية السابق لشؤون الشرق الادنى في ادارة ترمب