جرت أحداث جسام في السنة الراحلة 2024، ووقائع كبيرة لم يكن ليتكهن بها كبار المنظرين الاستراتيجيين ولا أصحاب الفراسة الجيوسياسية في النظام العالمي، وكانت ذروة هاته الأحداث ما قامت به إسرائيل من تدمير لغزة، ومن تقزيم أجنحة «حزب الله» اللبناني واغتيال قادته؛ وعلى رأسهم حسن نصر الله، وتصفية قادة «حماس» الكبار، البعض منهم اغتيل في أراضٍ لم يكن ليتصور أن تنالها أعين المخابرات الإسرائيلية وأسلحتها، كما وقع لإسماعيل هنية في إيران؛ وامتحنت إسرائيل وأميركا قوة الرد الإيراني الذي أنبأ بمحدودية الردع الاستراتيجي لدى إيران؛ واقتربت الحرب بين روسيا وأوكرانيا من دخول عامها الرابع، وكانت الأشهر الماضية لصالح موسكو بامتياز على الأرض؛ سيطرت فيها على ما يقرب من 3 آلاف كلم مربع، لا سيما في مقاطعة دونيتسك جنوب شرقي أوكرانيا، رغم أن كييف كثفت استخدام المسيّرات الهجومية، وحصلت على طائرات «إف 16»، وعلى موافقة الرئيس بايدن لضرب العمق الروسي بصواريخ غربية بعيدة المدى؛ ويصيب الخوف والذعر الدفينان الأوروبيين من وصول الرئيس دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، حيث إن قواعد الدعم والتدخل الأميركية في أوكرانيا ستتغير بالكامل، وستكون مجتمعة لصالح الرئيس بوتين الذي يلتقي في خبرته المخابراتية والاستراتيجية مع النظرة الاستراتيجية للرئيس ترمب؛ كما أن حلف «الناتو» سيبدأ في الدخول في سبات جزئي، لأن العقيدة الاستراتيجية الترمبية تقوم على مصالح أميركا، وأنه لم يصوت عليه لحماية الأوروبيين ولا الحلفاء، وإنما لتحقيق الرخاء للشعب الأميركي وملء جيوب المواطنين... كما أن الدولتين المحوريتين في أوروبا؛ فرنسا وألمانيا، تعيشان على وقع مشاكل سياسية داخلية صعبة، مما يجعل الجسم الأوروبي خالياً من محركيه التقليديين، وما لذلك من تأثير على المصالح الأوروبية؛ كما أن أفريقيا بدأت تغير من قواعد التحالف التقليدية من قبيل جلب روسيا والصين بوصفهما حليفين موثوقاً بهما، واستبعاد الحلفاء التقليديين... غير أن السنة لم تودعنا حتى كانت الواقعة غير المنتظرة، وهي القضاء على حكم بشار الأسد وهروبه إلى روسيا للدخول في تقاعد مر، بعد أن مرت البلاد بسنوات من الجحيم والحرب الأهلية التي دامت ما يزيد على 13 سنة، وقضت على الأخضر واليابس، مخلفة أكثر من نصف مليون قتيل، ومنشئة لمناطق نفوذ تسيطر عليها أطراف متحاربة ذات ولاءات وتوجهات ومصالح مختلفة.
كل هذا لأن التقلب، والتوجس، والتعقيد، والغموض هي سمات تطبع الساحة الدولية الحالية... فكل منطقة من العالم تؤوي مصائب عظمى؛ منها التي اشتعلت، ومنها التي خبت مؤقتاً، ومنها التي تنتظر دورها؛ وتغيب في كثير من الأحيان الحكمة الاستراتيجية عن بعض الفاعلين المحليين في حل المشاكل الداخلية وفي استباق الأزمات، بمعنى غياب النظرة الموضوعية للبيئة الحالية، والتقويم المسبق لنتائج الاستمرارية والتغيير داخل هذه البيئة، بصورة تضمن ازدهار البلاد في المستقبل...
إن غرض الحكمة الاستراتيجية هو ترجمة الغرض السياسي إلى تأثيرات تشكل البيئة الاستراتيجية على النحو المفضل. وهي شاملة في نطاق رؤيتها ومحدَّدة في حقل تنفيذها. فالاستراتيجية تُعنى بالمستقبل، وتحليل المشكلات وتجنبها، وتُؤدى هذه المهمة من خلال تقويم دقيق للبيئة الداخلية والخارجية لتحديد وانتقاء العوامل الاستراتيجية الأساسية التي يجب أن تعالَج لخدمة مصالح الدولة بنجاح. وهاته مسألة في غاية الأهمية، لأن الفاعل السياسي إذا فقه أبجدياتها نجا ونجح في سياساته وأقام جسراً يمر عليه هو وقومه بسلام؛ وإلا كانت الكارثة.
فماذا لو امتلكت الحكمة بشار الأسد الذي أمسك منذ أربعة وعشرين سنة مصير البلاد والعباد؟ ماذا لو أدخل كل الفاعلين المجال السياسي العام ومنحهم فرصة تسيير الشأن العام؟ ماذا لو استقوى بالداخل بدل استقوائه بالخارج؟ ماذا لو قرر الأوكرانيون جعل بلدتهم دولة محايدة، لا يقتربون من الحلف الأطلسي ولا من الخطوط الحمراء التي جعلت بلدتهم تعيش تحت رحمة القنابل والصواريخ؟ ماذا لو حضرت الحكمة الاستراتيجية عند محركي «طوفان الأقصى» الذين ظنوا أن مخرجات الأمور ستسفر عن تدخلات عسكرية إسرائيلية محدودة تليها اتفاقيات لصالح «حماس»؟ أو أن شرارة الحرب التي أطلقت ستتبعها حروب إقليمية موسعة تتسابق فيها القوى الدولية لإطفائها؟
إن الفترة الحالية تحتاج إلى نظارات استراتيجية لا تقبل الخطأ، وتحتاج إلى حكمة كبيرة من الفاعلين لتجنب المشكلات المستقبلية الممكنة أو حلها قبل فوات الأوان؛ اللحظة الاستراتيجية ثمنها باهظ؛ وما يجري حالياً في النظام العالمي أقعد كثيراً من المناطق على جرف هار قد تهوي بها في كل حين؛ والحكيم من عرف كيف يغادر تلك الهاوية ويستقوي بالداخل ويجلب التحالفات المتوازنة بدل الارتماء في أحضان المجهول.