يشهد العالم تحوّلاً متسارعاً في ميزان القوى الاقتصادية، الذي أُسس منذ عقود على مركزية نفوذ مجموعة السبع (فرنسا والمملكة المتحدة وألمانيا وإيطاليا والولايات المتحدة الأميركية وكندا واليابان) بقيادة الولايات المتحدة، والذي أدّى إلى نشوء قوة مماثلة تقف في وجه التيار الغربي وعقوباته الاقتصادية المُجحفة. فإن العالم، منذ تفكك الاتحاد السوفياتي بعد الحرب العالمية الثانية، يبحث عن توازن ومنظومات دولية أكثر عدالة، ولا سيما أن قيادة العالم لم تعد مرهونة بالولايات المتحدة والدول الغربية اقتصادياً وتكنولوجياً.
في الثاني والعشرين من شهر أكتوبر (تشرين الأول) عام 2024، وعلى مدى ثلاثة أيام، عُقدت «قمة بريكس» السادسة عشرة لمجموعة «بريكس» في مدينة قازان، عاصمة جمهورية تترستان في روسيا، وضمت دولاً انضمت إلى المجموعة أو مدعوة للانضمام.
في الواقع، الهيمنة الأميركية والسياسية هي الحافز الأساسي الذي جعل التفكير في تشكيل مجموعة دولية تتحدى الاحتكار الاقتصادي والسياسي الغربي، وتواجه العملاق الأميركي؛ وعلى رأسه الدولار الأميركي، أمراً ضرورياً. لذا في عام 2006، اجتمعت مجموعة تأسيسية مؤلفة من أربع دول (البرازيل وروسيا والهند والصين)، وكانت أول قمة لها في 16 يونيو (حزيران) عام 2009 في يكاتيرينبرغ Yekaterinburg في روسيا.
في البداية جرى تركيز المجموعة على تسليط الضوء على فرص الاستثمار، ثم ما لبثت أن تحوّلت وأضحت كتلة جيوسياسية تضم ثلاث دول نووية (روسيا والهند والصين). وفي عام 2017 وخلال انعقاد قمة بريكس في مدينة شيامين الصينية، طُرحت فكرة «بريكس بلس» التي هدفها الأساسي هو إضافة دول جديدة إلى المجموعة كضيوف بصورة دائمة أو مشارِكة في الحوار.
وأهداف المجموعة متعددة؛ أهمها تحقيق وتعزيز التكامل والاندماج الاقتصادي والاجتماعي، وتحقيق نمو شامل مستدام وتنمية قائمة على التكنولوجيا، والعمل على إنشاء سوق مشتركة للتجارة الحرة (على غرار خطة مارشال)، وتعزيز التجارة الدولية؛ وتفعيل تبادل العملات المحلية بين المجموعة وإيجاد عملة موحّدة، والتخلّص من شروط صندوق النقد والبنك الدوليين المُجحفة، والأمن والسلام... وهكذا تُقدم مجموعة البريكس نفسها على أنها البديل عن مجموعة السبع، فما العوامل التي تجعل من مجموعة بريكس قوة جاذبة لدول الجنوب الفقيرة والدول النامية؟
تضم «بريكس» بشكلها الحالي نحو 45 في المائة من سكان العالم (325 مليار نسمة)، و33.9 في المائة من إجمالي مساحة اليابسة، ويبلغ حجم اقتصاد المجموعة 29 تريليون دولار، بما يمثل نحو 29 في المائة من حجم الاقتصاد. كما يمثّل الناتج المحلي لمجموعة البريكس، بناء على معيار تعادل القوة الشرائية، نسبة 36.7 في المائة من الاقتصاد العالمي.
لكن من أهم أهداف «بريكس»، وخاصة روسيا ورئيسها، اهتزاز هيمنة الدولار الأميركي، الذي يُعدّ من أهم أدوات هيمنة الولايات المتحدة على الاقتصاد العالمي والسياسة العالمية، واعتماد عملة مشتركة واحدة موحّدة خاصة بكتلة «بريكس». وفي حال قررت مجموعة بريكس ابتكار عملة مدعومة بالذهب، فإن الطلب على الذهب من جانب البنوك المركزية سوف يرتفع ويدفع بأسعار الذهب إلى الارتفاع. لكن هل من السهل التخلص من هيمنة الدولار في المدى القريب؟، وفي حال أيّ تحوّل سريع نحو عملة جديدة سيُحدث صدمة شديدة على النظام العالمي، خاصة أن الدولار لا يزال في سلة عملات احتياط دول العالم وديونها التي تُقوَّم بالدولار، كذلك في احتياطات البنوك المركزية في جميع أنحاء العالم. وماذا عن الصين التي تُعدّ ثاني أكبر مشترٍ لسندات الخزانة الأميركية وتمتلك نحو 3 تريليونات دولار ضمن احتياط من النقد الأجنبي، والتي بذلك ستتأثر بأيّ إجراء يخص الدولار، والزخم المتسارع والمتزايد للروبية الهندية، واليوان الصيني الذي يشهد منذ عام 2016 أسرع معدل نموّ بين العملات العالمية؟ وماذا عن الأموال التي ستتدفّق على سلة المجموعة (من بنوك وصناديق)، وقد تتكدّس وتشكل تضخماً ملحوظاً؟ وماذا عن غياب الرؤى حالياً؟ وهل ستكون هناك هيمنة اقتصادية وسياسية أخرى من قِبل الصين مثلاً أو روسيا أو الاثنتين معاً؟
أسئلة كثيرة مطروحة، ولكن مما لا شك فيه هو أن «بريكس» حُلم من الأرجح أن يتحقق وينجح.
*باحثة لبنانية