الرجل نفسه. الموضوع نفسه. جميع الأشياء تقريباً نفسها. لكن المؤسف أن العالم الثالث هو نفسه أيضاً. الرجل هو صديقي. تاجر لبناني يمارس عمله بنجاح بين بيروت وإسطنبول، كلما ألتقيه أسأله طبعاً عن الأحوال، والجواب دائماً «تمام التمام». يقول في سعادة ظاهرة. كيف الحياة في إسطنبول؟ خوش حياة، يجيب في سرعة.
هل من مضايقات؟ أبداً. هل يتكلم الأتراك اللغة الإنجليزية بصورة عامة؟ للأسف، لا. ويسارع إلى تبرير هذا النقص: الأتراك مثل جميع الشعوب الإمبراطورية، يعتزون بلغتهم. مثلهم مثل الألمان، أو الفرنسيين. لذلك، يصرون على التحدث بالتركية حتى لو أتقنوا لغة أخرى. إنهم لا ينسون أيام الاتحاد السوفياتي كانت التركية اللغة الثانية في الإمبراطورية. وكان التركي يتحدّث بلغته في إسطنبول، وفي طشقند. أو باكو.
التاجر اللبناني نفسه، ونلتقي مصادفة: ماذا يجري في إسطنبول يا رجل؟ يجيب في شيء من القلق «أمراض العالم الثالث». فجأة ومرة واحدة المعارضة في السجن، والناس في الشوارع، وساحة «تقسيم» تفيض دفعة تلو أخرى. لا وسطية في الطباع الإمبراطورية. والرئيس رجب طيب إردوغان لا يعرف سوى أن يكون إمبراطوراً. وخصمه رئيس بلدية إسطنبول، نسي هذا الشرط. في هذه المدينة التي كان إردوغان، ذات يوم، مؤذنها، وأحد بسطائها، ثم أصبح سلطان البلاد، ليس مسموحاً «تحدّي الباب العالي».
للسلطة ألقابها وأبوابها. «الباب العالي» و«الصدر الأعظم». ومن يبلغ لقباً في هذه المراتب فإلى اليوم الأخير. السلطان يكون سلطاناً، وله تكون السلطنة، والرجاء أن تبلّغوا وتتبلغوا، والحاضر يعلم الغائب.
هذه عادة لا يليق البحث فيها، والجدل يعكّر المزاج، والتوتر يقسّم ساحات الإمبراطورية، كما يعكّر الملاحة في البوسفور. ويا «حضرتلري» رئيس البلدية، ألم تتعلّم الدروس السابقة من ساحة «تقسيم»؟ وكيف تحتشد حشودها في سرعة البرق؟
التاجر اللبناني يزداد قلقاً. حتى الأمس كان الازدهار يملأ المدينة، والناس جماعات خلف السلطان. لكن علّة الأتراك السياسة، لا تعرف متى تهب رياحها. ففي هذا الباب، لا تزال أحكام وعادات العالم الثالث نافذة وسارية المفعول، أفندم.